يُحيي المسيحيون في العالم، بحسب التقويمين الغريغوري (المُسمى الغربي) واليولياني (المُسمى الشرقي) الصوم الأربعيني، الذي من اسمه نعرف أنّه يدوم لأربعين يومًا، تمثّلاً بالسيد المسيح الذي يخبرنا الإنجيل بأنّه صام هذه المدّة في برية أريحا، نهارًا وليلاً.
وتختلف طرق الصوم من كنيسة لأخرى، ومنها ما زال مُتمسّكًا بالصوم لساعات محدّدة، مُنقطعًا عن اللحوم ومشتقاتها من الألبان والأجبان والحليب، ومنها من خفّف متطلبات الصوم لتكتفي بالحدود الدنيا، كالصوم عن اللحوم أيام الجمعة فقط. ومنها ما يسمح بأكل السمك ومنه ما يحرّم. ويقع البيت الواحد والعائلة الواحدة أحيانًا بأشكال متعدّدة للصوم تحت السقف الواحد.
ويطيب لي هنا أن أعرض ملاحظتين قبل أن تصدر الأسبوع المقبل رسالة التهنئة برمضان من حاضرة الفاتيكان، والتي تصدر سنويًّا في الجمعة الأولى من رمضان، وسنتحدث عنها بإذن الله.
الملاحظة الأولى إنّ تخفيف الصوم وقوانينه ومتطلباته في المسيحيّة يُعطي المجال للإبداع الفردي في عدم الاكتفاء بالحدود الدنيا للمأكل والمشرب، بل يتخطاها إلى الصوم عن الأمور التي يتعلّق بها المرء في حياته اليوميّة. وتركز الكنيسة اليوم على مصطلح «الصوم الإلكتروني» بمعنى الزهد في استخدام وسائل التواصل الرقميّ، التي باتت من «عبوديات» هذا العصر، ولا يستطيع المرء الفكاك منها وحتى من «الإدمان» عليها. إنّ الزهد في استخدامها في زمن الصوم الأربعيني لا يعني كراهيّة تجاهها، بل يعني التنبّه إلى التلاقي الإنساني مع أبناء ا?بيت الواحد، ليتمّ الحديث بين الأهل والآباء والأبناء بطريقة إنسانيّة وليس فقط إلكترونيّة. ومن الكاريكاتورات الأكثر تأثيرًا، حين ترى مجموعة من الأحفاد في زيارة لجدتهم يوم العطلة للاطمئنان على صحتها، فترى كل شخص مطئ طئ الرأس مع هاتفه ويتواصل مع عالمه الخاص بدون ولا كلمة... وأحيانًا تكون الجدّة أيضًا ملتهية بموبايلها. «الصوم الإلكتروني»، أو «الرقمي» مصطلح جديد وعلينا تطويره مستقبلاً.، فهو تربوي بامتياز وانساني وكذلك روحي.
أمّا الملاحظة الثانيّة، فهي الشعار المرفوع في عدد من الكنائس: «إنّ ما تصوم عنه ليس ملكًا لك، وإنّما لأخيك الفقير». فتنشأ العديد من المبادرات، بتنظيم لجان المحبة والعمل الخيري، لجمع تبرعات الناس لأخوتهم الفقراء في هذا الزمن المقدّس، والزمان الصعب على الكثير من العائلات. وقد ابتدأ الصوم هذا العام بمبادرات لجمع التبرعات لإغاثة الأخوة المتضررين في زلزال تركيا وسورية، فجمعت البطريركيّة اللاتينيّة على سبيل المثال لا الحصر ما يقارب ربع مليون دولار تم ارسالها عبر قنوات المحبّة والكنائس إلى الأكثر عوزًا وحاجة. وتقو? لجان الكنائس بتوزيع معونات على العائلات التي يحق لها وبالاخص لاطفالها ان ينالوا قسطا من الفرح في عيد الفصح المقبل.
صومًا مباركًا للمسيحيين في منتصف الطريق، وشهرًا مباركًا لأخوتنا المسلمين، الداخلين في رمضان بعد أيام قليلة...
(الراي)