"روحانيات الإدارة العامة"..
مثلما يحتاج الأفراد للطاقة الروحية والاستعداد لاستقبال مواسم الخيرات في الشهر الفضيل "شهر رمضان المبارك" فإن الأمر لا يقل أهمية لحاجة الإدارات العامة إلى شحذ الهمم والتعبئة الروحية لإصلاح الإدارة العامة واستعادة ثقة الجمهور بأدائها، وكما أن لتوبة العبد والرجوع إلى مولاه لها مذاقات خاصة، فإن ترسيخ القيم الأخلاقية في الوظيفة العامة والصلح مع المواطن لها مذاقات فريدة ومتنوعة وممتدة واسعة الأطياف، ولا سيما أن مد جسور التواصل لإنهاء حالة القطيعة مع أرحام الوطن الواحد وتوطيد أواصر الثقة المتبادلة بين الأطراف وإشراك الجميع دون تهميش أو إقصاء -طيف عن طيف - لتلبية احتياجات أصحاب العلاقة هي أولى الأولويات لينعم الوطن بالازدهار والاستقرار.
والتحدي الذي يواجه الإدارات العامة في سياق عملها أن "فعل الشيء الصحيح" ليس دائما واضح العيان على الفور للجميع؛ ولا سيما أن السلوك الأخلاقي أو غير الأخلاقي ليسا بدائل (أسود أو أبيض)، كما أنهما ليسا طرفي طيف – ما بين التضحية ونكران الذات من أجل المصلحة العامة من جهة أو استغلال كل فرصة غير مشروعة أو غير أخلاقية للحصول على المنفعة الشخصية من جهة أخرى، فلا بد من تفسير القيم الأخلاقية في المواقف الواقعية المعقدة التي تقع في الوظيفة العامة في كثير من الأحيان وعلى أساس يومي.
وكما يحرص الأفراد على الاعتكاف في الخلوات في الليالي المباركة وتخطيط البرامج العبادية لزيادة المنسوب الروحي وتوجيه طاقتها بالأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، فإن الإدارات العامة أحوج ما تحتاجه للخلوات الصادقة للتقييم الذاتي وعقد جلسات المراجعة والمحاسبة وقبول النصح وتلقي التغذية الراجعة بأذن صاغية للتحسين والإصلاح، ووضع إطار للمعايير التي توجه السلوك والقرارات من خلال تصميم سياسة مبتكرة نحو النزاهة وردع الأنشطة الفاسدة وتفكيك الفساد المنهجي _إن وجد.
وهذا يتطلب وجود قيادات من أعلى الهرم في المؤسسات الحكومية تتحلى بالالتزام على الدوام في إظهار الرغبة والسعي الجاد نحو المنافع طويلة الأجل والمشتركة على نطاق واسع لجميع أصحاب المصالح، وترسيخ مفهوم القيادة بالقدوة الموجه نحو النتائج ومحورها المواطن، فروح العمل في الخدمة العامة ومفهومها مرتبط بخدمة المصلحة العامة وهو نقيض المصالح الشخصية أو المصالح الآنية الضيقة وهذا صميم الحكم الرشيد (الحوكمة) ولا سيما أن المصلحة العامة توفر نقطة مرجعية لتقييم مسارات العمل المختلفة وتحديد الطريق الصحيح للمضي قدماً بما يخدم المصلحة العامة وليس المصلحة الشخصية أو الأنانية للأفراد.
يرتبط تحقيق المصلحة العامة بوضع حزمة من التدابير المتنوعة والشاملة والمتوازنة يتم تصميمها وفق ظروف البلاد والسياق العام لعمل المؤسسات العامة، ووضع اللوائح والقواعد الأخلاقية وتقييم المخاطر التي تعترض عمل الإدارات العامة ، ووضع الاستراتيجيات القائمة على المخاطر وإدارة تلك المخاطر بمستوياتها الثلاث "المخاطر المؤسسية (المؤسسات الفردية) والمخاطر القطاعية والمخاطر الوطنية (على مستوى الدولة) وتسمية منسقي النزاهة في كل مؤسسة عامة بالتعاون مع هيئات وأجهزة مكافحة الفساد، والتوجه نحو الحكومة المفتوحة، وأتمتة الخدمات وتبسيط إجراءات الحصول على الخدمة ، والتقليل أو الحد من تدخل العنصر البشري لدى تقديم الخدمات، ووضع دليل لتحديد "الوظائف الضعيفة "الوظائف المعرضة لخطر الفرصة غير المشروعة، وتدريب المعنيين للتصدي للمعضلات الأخلاقية ، ووضع آليات الابلاغ عن المخالفات والتدقيق وحماية المبلغين والمساءلة والمقاضاة والعقوبات النافذة بشفافية وعدالة.
لا شك في أن تلك الجهود تسهم في تطهير وتنقية وترقية أداء أجهزة الخدمة المدنية ليكون هذا الإصلاح يوم عيد يفرح به الجميع، ينادى فيه الصلاة جامعة لأبناء الوطن الكبير: أتموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، فالوطن للجميع ويستحق الكثير.
د. كفاية عبدالله/ اختصاصي التطوير المؤسسي
(Kifaya2020@gmail.com)