ثمة مفارقات في الإدارة السياسية الأردنية تبدو واضحة لدى النظرة الواقعية الأولى لها، فلا تحتاج إلى عناء لكشف تهافتها وهشاشتها، ما يطرح سؤالاً حول سبب وجودها، ابتداءً، والدلالات التي تعكسها حول عملية صنع القرار ورسم السياسات المختلفة ثانياً.في هذا السياق قد يكون لتعدد وتنوع الأفكار والرؤى في مطابخ القرار دور كبير في بروز هذه الثغرات، جراء الفجوة بين المؤسسات والقوى المختلفة في عملية صنع القرار، وربما يعود السبب إلى عدم كفاءة من يتولون رسم السياسة أو عدم مأسسة عملية صنع القرار في مؤسسة معينة، فيكون الأمر مرتبطاً بقراءات شخصية تركز على جانب معين في صنع السياسة وتهمل جوانب أخرى!
في هذا المقال سأقف على بعض المفارقات في سياسات وموضوعات متعددة لتقديم أمثلة قليلة من حالة عامة، لعل تلك"الأحاجي" تعيد مرة أخرى طرح المطلب القديم الجديد وهو ضرورة وجود معهد للسياسات العامة يقدم تقارير ورؤى وتحليلات نقدية تساعد على مأسسة السياسات العامة وتوفير تغذية عكسية لها ولعملية صنع القرار، ما يؤدي إلى تطويرها بصورة تكون أكثر توافقاً وواقعية وموضوعية.
الوقفة الأولى؛ مع مقال الزميل فهد الخيطان في يومية العرب اليوم (السبت الماضي) إذ يقدم الخيطان موقفاً من الواضح أنه يعود إلى إحدى مؤسسات صنع القرار وتبدي فيه ضيقها وتذمرها من الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وتذهب إلى اتهامه بالعجز والتقصير وعدم القدرة على مواجهة التطورات الحالية، ويصل الموقف إلى حالة من الاستهانة الكاملة بالرجل وبقدراته ووصفه بالضعف. وإذا تفهمنا هذا الموقف وقبلناه، مع بعض التحفظ، فإن ما لا يمكن تفسيره في المقابل، كيف تضع السياسة الأردنية كل رهاناتها على عباس وهو بهذه الحال من الضعف! ولماذا تفتح النار على حركة حماس وتقطع خطوط الاتصال معها بعد أحداث غزة دون وجود محاولات ملموسة للحوار مع حماس والوصول إلى قواسم مشتركة حول قضايا مرتبطة بالمصلحة الوطنية.
لا أريد العودة إلى مناقشة السياسة الأردنية من حماس، وقد كتبت ذلك سابقاً، لكن في تقديري أننا أمام سياسة تحكم على نفسها بالفشل مسبقاً عندما تضع رهانها وخيارها الاستراتيجي في شخص لا تتردد في اتهامه بالضعف والعجز في مقابل معاداة الطرف الآخر، ما يحتاج إلى تقديم توضيح مقنع وحوار سياسي أكثر عمقاً حول الوضع في الأراضي المحتلة والسياسة الأردنية، دون المرور بألغاز ووسطاء لنقل الرسائل المشفّرة!
الوقفة الثانية؛ مع الأسرى العائدين من سجون الاحتلال الإسرائيلي. فمن المعروف أنّ القضية جدلية بامتياز، وهي موضع نقاش واستقطاب داخلي وشهدت سجالاً إعلامياً وسياسياً بين الحكومة والمعارضة والكتاب المؤيدين والمعارضين. شخصياً أقف مع الاتفاق الذي وقعته الحكومة وضد المهاترات السياسية والإعلامية الفارغة، لكن ما لا يمكن فهمه أن تربح الحكومة المعركة في عودة هؤلاء الأسرى وتخسرها في قضية صغيرة كملابس السجن والزيارات! ولولا الاستدراك اللاحق للحكومة لكنّا بالفعل أمام سياسة عرجاء مشوهة بكل المقاييس!
ما يقال في هذا المقام أنّ قرار الحكومة بإعادة النظر في قصة الملابس والزيارات تأخر كثيراً وخسرت خلال هذه الفترة الحكومة كثيراً، وأشك بأنّه لولا تدخل بعض الشخصيات والمراقبين فإن الحكومة لم تكن لتتراجع عن معركة صغيرة تبدو، بداهةَ، خاسرة ولا مصلحة في خوضها.
الوقفة الثالثة؛ مع منع جمعية العفاف من إقامة حفل خاص بها، ما دفع بشخصية مرموقة كالدكتور عبداللطيف عربيات، رئيس الجمعية، إلى الاحتجاج والغضب الشديد والخروج عن خطابه الهادئ، وفقاً للزميل حلمي الأسمر. لا أستطيع أن أفهم قرار وزارة الداخلية بمنع هذا الحفل إلاّ من باب التندر! فهل تعتقد الوزارة أو المؤسسة الرسمية، مثلاً، أنّ هذا الحفل هو إحدى أدوات التجنيد السياسي لدى جماعة الإخوان؟! وهل أصبح الخلاف مع الجماعة يعني منع كافة نشاطات بعض الجمعيات التي يتولى إدارتها قيادات في الجماعة، بما فيها جمعية معنية بموضوعات تشجيع الزواج وتسهيل متطلباته على الشباب!
المفارقة أنّ د. عبداللطيف عربيات هو رئيس جمعية مكافحة التصحر؛ فهل ستمنع الوزارة اجتماعات وفعاليات الجمعية العامة، لأن رئيسها أحد قادة جماعة الإخوان! ثمّ هل تلتقي مثل هذه"القرارات" مع سياسة الدولة المعلنة بتشجيع ودعم الخط "المعتدل" داخل جماعة الإخوان، أم تقدم هدايا وحوافز للخط "المتشدد" لتعبئة القواعد والجماهير الإخوانية وإضعاف"المعتدلين" داخل الجماعة وإحراجهم!
الوقفة الرابعة؛ هي في تعامل بعض المسؤولين مع الإعلام، من خلال تمرير المعلومات والتصورات والرؤى من خلال بعض الكتاب، بما في ذلك القيام بضربات مؤلمة ضد مسؤولين آخرين. فهنالك فرق كبير بين أن يكون كاتب أو معلق سياسي مقرباً من مسؤول معين، فتنقل الرسائل والتحليلات الاستراتيجية والسياسية من خلال هذا الكاتب وبين أن يستخدم "الكُتّاب" في الصراعات ونقل الرسائل بين المسؤولين الكبار، وإذا كانت دول كبيرة كالولايات المتحدة، مثلاً، يمكن أن نجد فيها هذه الظاهرة مع وجود مؤسسات متعددة متنافسة في صنع القرار وذلك للتأثير على الرأي العام، فإنّ هذه الظاهرة تبدو مضحكة في دولة صغيرة كالأردن، فيها الخطوط الفاصلة والمحددة لعمل المؤسسات الرسمية واضحة دستورياً، ولا تتحمل عملية صنع القرار هذا التنافس والتضارب والصراع!
من زاوية أخرى؛ إذا كان طبيعياً أن يكون كاتب معين قريباً من إحدى مؤسسات القرار، فما هو غير مقبول أن تختفي شخصية الكاتب النقدية وخبرته في المجال الذي يكتب فيه، فتصبح المسألة مجرد تمرير معلومات أو رسائل وكأننا أمام ساعي بريد، ثم تكون الحزورة الرئيسة حول شخصية المسؤول الذي مرر المعلومات لمعرفة مدى أهمية الرسائل وقوتها وعن أي مستوى من مستويات القرار تعبّر!
بالمناسبة؛ يتحدث الزميل والصديق حسن البراري عن شخصية المحلل والمعلق الإسرائيلي المعروف، زئيف شيف، الذي مات قبل مدة قصيرة. يقول البراري انّ شيف كان معروفاً بعلاقته وقربه من مؤسسات صنع القرار في إسرائيل، وكانت تعليقاته تحظى بالمتابعة والاهتمام لدى العديد من المسؤولين والباحثين داخل إسرائيل وخارجها، ولدى كتاب أميركيين كبار. لكن وعلى الرغم من قرب شيف من المؤسسة الرسمية وصلته الوثيقة بها إلاّ أن مقالاته كانت ذات روح مستقلة في التحليل والتقويم والنقد للسياسات الإسرائيلية دون أن يعني ذلك خسارته لموقعه أو استسلامه لغواية السلطة والعلاقة بها.
في تقديري ما نحتاج إليه هو نموذج زئيف شيف؛ أي مثقف الدولة وليس السلطة، الذي يمتلك خبرة في مجاله وروحاً نقدية وقدرة على حفظ مسافة جيدة في التحليل تمنح لمقالاته وأفكاره مشروعية ومصداقية عند الآخرين.
m.aburumman@alghad.jo