ضرورة استرداد الكلفة والناقل الوطني للمياه
د. م. منذر حدادين
18-03-2023 02:57 PM
قرأت في ما نقلته وسائل الإعلام عن ندوةٍ نظمتها وزارة المياه والري لمناقشة استراتيجية المياه للمملكة، وأعجبني ما أدلى به كل من مديرة وكالة الولايات المتحدة للإنماء الدولي وكذلك نائب سعادة سفير ألمانيا الاتحادية من ضرورة استرداد كلفة إيصال المياه المنزلية إلى المستهلكين ضماناً لديمومة الخدمة، ونحن نعلم أن خدمة المياه المنزلية مدعومة منذ أكثر من نصف قرن. أعجبني ما أدلوا به لإن دعم الاستهلاك ما هو إلا وصفة للهلاك!
فلماذا تضطر الخزينة العامة إلى دعم خدمة المياه في بلدنا؟ والجواب هو ارتفاع كلفة خدمة المياه الرأسمالية والتشغيلية ذلك لإن مراكز الاستهلاك قد استنزفت موارد المياه القريبة منها بسبب معدل الزيادة غير الطبيعية في عدد قاطنيها. فاضطرت إدارات المياه إلى الاعتماد على موارد بعيدة عن مراكز السكان، وأدنى منها ارتفاعاً عن سطح البحر. فمن موارد جوفية في الأزرق إلى أخرى سطحية من قناة الملك عبدالله إلى جوفية في وادي العاقب وفي منطقة وادي العرب إلى جوفية في منطقة الديسي ومعظمها متجدد وبعضها إحفوري (الديسي). أرى ذلك بأم عيني وأنا اللاعب في مياه سيل عمان القادم من رأس العين ومصطاد للسمك منه.
وقد تضاعف عدد سكان المملكة منذ إعلان استقلالها عام 1946 وحتى اليوم حوالي 32 ضعفاً، وبمعدل سنوي مركب يناهز 4،7%، وهو معدل لو واجهته الولايات المتحدة كما واجهناه منذ العم 1948 لكان عدد سكتانها اليوم 4،8 بليون ساكن عوضاً عن عددهم اليوم البالغ 330 مليوناً فقط، ونحن نتلقى أخبار الضجة في الإدارة الأميركية وفي الكونغرس حيال محاولات أعداد من المهاجرين من أميركا الوسطى والجنوبية الدخول إلى الولايات المتحدة، فمن ضرورة بناء جدار حاجز إلى تقوية الدوريات الحدودية إلى بذل الجهود الأمنية في بلاد المصدر منعاً لتجمهر اللاجئين على نقاط العبور إلى الولايات المتحدة من المكسيك. وبخلاف ذلك فإن بلادنا مفتوحة أمام اللاجئين والمهاجرين من بلاد العرب الذين اضطروا للهجرة بسبب عدوان على بلادهم وراءه دول الغرب.
أعود إلى تصريحات برامج المساعدات الغربية لقطاع المياه وأعبر عن امتنان الأردنيين للعون المقدم، خاصة من الولايات المتحدة الذي ابتدأ ببرنامج النقطة الرابعة Point IV عام 1952 مروراً ببرنامج المساعدات الأميركي إلى استحداث وكالة الولايات المتحدة للإنماء الدولي في نوفمبرعام 1961 وحتى يومنا هذا. لكن ازدحام اللاجئين على الأرض الأردنية منذ نكبة فلسطين عام 1948 وتكرارها ثم نكبات العراق تلتها نكبات سوريا استحدثت ضغوطاً غير معهودة للسكان على الموارد ومنها الموارد المائية. وفي احتساب الوضع التوازني للمملكة من حيث مورد المياه المتجددة والمياه المعالجة فإن مجموعها يناهز بليون وتسعماية مليون متر مكعب سنوياً بما في ذلك مكافيء رطوبة التربة.
فإن كل تلك الموارد كفيلة بخدمة 1,1 مليون نسمة فقط. أما وقد بلغ عدد السكان عشرة أمثال ذلك فلا غرابة أن تقنن خدمة المياه المنزلية ولا غرو في أن نفاجأ بأن 80% من غذائنا مستورد! وأن الميزان التجاري يتفاقم عجزه السنوي. فجموع اللاجئين الذين احتموا بالأردن لم يكن بحوزة أي منهم ما يحتاجه من موارد ولا مناص من الاعتماد على موارد مياه البلد المضيف.
وعودة ثالثة إلى تصريحات المندوبين الحميدة أعلاه من ضرورة استرداد الكلفة الكلية لخدمة المياه ضمانة لاستدامة خدمتها لأقول إن ضغط السكان غير الطبيعي على موارد المياه رفع كلفة خدمتها درجات عالية، ولا ذنب لأي من مكونات السكان، أصليين كانوا أم لاجئين ومهاجرين، في ما آلت إليه أمور معيشتهم وقد زرعت القوى العالمية في المنطقة كل أسباب الهجرة والنزوح، وقام الأردن بدور لم تستطعه أكبر قوة في العالم عسكرياً واقتصادياً بل ضاقت هذه بنسب بسيطة جداً من المضطرين للاحتماء برعايتها وأقامت الجدار العازل لتحول بين أولئك المضطرين وبين الأراضي الأميركية. فكيف بالله يطلب من الأردن أن يعتني باحتياجات كل هؤلاء اللاجئين وموارده لا تكفي سكانه الأصليين أصلاً؟ وكلنا نعلم نكوص الدول المانحة عن تقديم ما استعدت أن تقدمه لخدمة أولئك النازحين واللاجئين.
ثم أعود مرة رابعة للتصريحات الحميدة لأبين أنها لا تتوافق مع تصريحات أخرى أدلت بها مديرة الوكالة الأميركية للإنماء الدولي، وأعني بذلك تصريحات أدهشتني لشططها عبرت فيها المديرة عن تأييد الولايات المتحدة لمشروع الناقل الوطني للمياه واستعدادها للمساعدة المالية لإنشائه. ومصدر دهشتي هو إيماني كما هو إيمانها وزملائها بضرورة استرداد الكلفة. ومن طويل خبرتي في القطاع أعرف أن كلفة خدمة المياه تناهز ما معدله 2% من دخل الفرد (وهي في الولايات المتحدة تناهز 0.28%)، وأن هيكلة التعرفة يجب أن تراعي أنماط توزيع الدخل القومي بين المواطنين. وأنا أقبل أن تكون النسبة في حالتنا 3% كون بلدنا من البلدان شبه الجافة، وكون كلفة الصرف الصحي مرتفعة نسبياً. فإذا كان نصيب الفرد من الدخل القومي هذا العام ما يوازي 4100 دولار فإن كلفة خدمة المياه والصرف الصحي تناهز 123 دولار في السنة. فإذا كان استهلاك الشخص 80 متراً مكعباً في السنة وأن عليه أن يتحمل نسبة 45% مياه لا دخل مالياً لها، فإن على ذلك الشخص أن يتحمل كلفة 145 متراً مكعباً، أي أن كلفة المتر المكعب واصل أطراف المدينة يجب ألا تتجاوز 85 سنتاً للمتر المكعب! وحتى لو تم إنقاص الدخل الضائع إلى نصف قيمته الحالية فإن كلفة المتر المكعب واصل من شاطئ العقبة إلى القويسمة يجب ألا يتجاوز 1,20 دولار. وهذه كلفة ليست بعيدة عن كلفة تحلية المتر المكعب الواحد في العقبة من كلفة رأسمالية وأخرئ تشغيلية. فمن أين نواجه كلفة النقل الرأسمالية (حوالي دولار للمتر المكعب الواحد) والتشغيلية لضخ المياه الف متر رأسياً و350 كيلومتر أفقياً إضافة إلى نسبة من الفاقد في الطريق؟ وهذه كلفة ستقارب ثلاثة دولارات تضاف إلى كلفة التحلية وكلفة التوزيع وفواقده.
فواضح أن الناقل الوطني للمياه لا يمكن أن يتآلف مع مبدأ ضرورة استرداد كلفة الخدمة، وعلى مدراء برامج المساعدات الأجنبية للأردن أن يوافقوا بين اقتراحاتهم للمشاريع ومطالباتهم استرداد الكلفة وربط كليهما بالناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد منه ومقارنة كلفة خدمة المياه نسبة إلى نصيب الفرد من ذلك الدخل، ويكفي الأردن أن يتحمل وزر هيكلة التعرفة لتتواءم مع أنماط توزيع الدخول من ذلك الناتج المحلي الإجمالي.
وأكرر ما اقترحته سابقاً من أن الحل هو الاعتماد على مخزون المياه الإحفورية الهائل في طبقة الصخر الرملي الممتدة تحت كافة أراضي المملكة تقريباً، ولكل عيبٍ فيها حلٌ إقتصادي، سيما واننا باشرنا الاعتماد عليها بضخها من منطقة الديسي إلى عمان، على أن نعود إلى مشروع الناقل الوطني للمياه المعتمد على تحلية مياه البحر بعد حوالي عشرين سنة عندما تتوفر الطاقة المستولدة بالإندماج النووي والذي طلت بشائره على البشرية بالاختراع الذي أعلنته وزيرة الطاقة الأميركية حين أعلنت على الملأ قبل أربعة أشهر ما جادت به جهود الباحثين في مختبر لورنس ليفرمور الوطني في منطقة خليج سان فرانسيسكو.
أكرر امتناني لبرنامج المساعدات الأميركي وقد عملت بدعم منه ردحاً من الزمن في تطوير وادي الأردن وفي تزويد العاصمة بمياه من قناة الملك عبدالله، وامتناني لبرنامج المساعدات الألماني الذي لم يبخل علينا في تطوير وادي الأردن بالري وبربطه بشبكة الكهرباء الوطنية، وبرامج المساعدات من البلدان العربية الشقيقة ومن اليابان وهولندا وإيطاليا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي ومن بعض مؤسسات البنك الدولي. كثر الله خيرهم ويخلف عليهم.