حينما خصصوا يوماً للحب يجتاح كرة الأرض بأحمره ووروده الطازجة باهظة الثمن ، أو البلاستيكية المعطرة ، قلت لنفسي يحق لهم أن يحتفلوا بكل الأشياء الآيلة للانقراض ، كي تبقواها على قيد الذاكرة. فيحق لهم مثلاً أن يخصصوا يوماً للصدق ، والصداقة والأمانة ، وللسلام الذي تمرمغ في تراب المفاوضات ، ويحق لهم أن يخصصوا يوما للحمام المسكين ، الذي أتعبه غصن الزيتون.
ولكنهم حين خصصوا يوماً دولياً لمكافحة الفساد ومحاربته ومصارعته ورشه بكل المبيدات الحشرية ، وضعت يدي على دفة قلبي ، فالظاهر أنهم لم ينفحوه يوماً خوفاً عليه من شبح الإنقراض ، لا سمح الله. بل لأنه قد بلغ السيل الزبى ، وتغلغل هذا الفساد كدودة في أحشاء العالم ، وكاد يسقط كرة الأرض كتفاحة منهكة.
فهل هذا الفساد كائن حي ، بلحم وشحم وأحاسيس؟، ، أم هو من الفقاريات الثديية؟، ، أم من الرخويات ، أو المفصليات المدرعة؟، ، أم أنه برمائي محرشف؟، ، أو كائن مجوقل (محمول جواً)؟،. ربما هو هلامي كالأميبا ، يغير شكله باستمرار ، فالرأس يغدو ذنباً والذراع قدماً بغمضة عين؟، ، أم أنه طُفيلي يسبب الإسهال بعد أن يندس بماء الشرب ، أو أنه من ذوات الدم الحار ، لا يدخل في سبات ، وله طبع حربائي يتأقلم مع كل الأرضيات؟،.
أرجو ألا تأخذكم الدهشة بهذه الأسئلة غير البريئة ، وأن تتركوا إجاباتها المدببة التي نعرف مسبقاً أنها لا تفضي إلا إلى مزيد من الإبهام والغموض ، وتتركنا معلقين ببئر عميقة من الضبابية واختلاط الأشياء ، فما أصعب أن تعرف المُعرَّف.
نهار هذا اليوم ، وتحت رعاية رئيس الوزراء تحتفل هيئة مكافحة الفساد باليوم الدولي لمكافحة الفساد تحت شعار (بالثقة والتعاون نحارب الفساد). وستتم مناقشة محاور تعزيز الثقة بالدولة ومؤسساتها ، وانعكاس ذلك على جهود مكافحة الفساد ، وهناك محور التعليم من خلال اعداد برامج ومناهج تركز على مبادئ النزاهة والشفافية. وكذلك دور الاعلام في مكافحة الفساد وكيفية الكشف عنه. فهل هذا يكفي؟،.
لا النوايا الحسنة ، ولا الاحتفالات العامرة بالمحاور المتشعبة ، ولا النقاشات وأوراق العمل ، والندوات والمحاضرات. ولا حتى التصريحات النارية ، التي تنوي أن تجفف منابع الفساد ، تفيد شيئاً دون مرافقة الإرادة الحقيقية للمكافحة والمطاردة والمتابعة بطول نفس ، والصبر والجرأة. فهذا الفساد كائن غريب عجيب ، ليس كالكائنات الأخرى ، فهو قد يعيش ويتربرب في بركة مجففة تماماً ، وقد يهيج وينمو (بعلاً) بلا ري ، أو دون قطرة ماء. وحتى إن قطعنا عنه الأكسجين ، فسيعيش على ثاني أكسيد الكربون ، ويتنفسه بانتعاش وانتفاش،. فماذا أنتم فاعلون؟،.
ramzi279@hotmail.com
(الدستور)