في السياسة علينا أن نفهم أنّنا لن نفهم عنوانا مطلقا أو نهجا واحدا تمشي عليه السياسات العالمية , فصديق الصباح قد يمسي في المساء عدوا وتدور الدوائر في حلقة مُفرغة شحيح بها الاستيعاب و طويلة بها الشروحات, لكن تبقى الخطوط الواضحة و المعالم البارزة تحكي فترة من المخاض السياسي الذي يخفي من وراءه توائم من الهيمنة بعد عقودٍ من التوحّد الأمريكي مقبلة على العالم اجمع .
ضرب مؤخرا صدع زلزاليّ مفاجئ أروقة السياسة السعودية الإيرانية , الصدع لم يكن مفاجئا و صاعقا بقدر ما كانت الصفيحة التي حملها و ضمها , فالصين و على مدار عقود من النهوض لم تطرق ابواب السياسة في مشهد تزاحمي صاعق , فوساطة الصين تُقرأ من عدة جوانب , فهي تغلق صنبور بيع الاسلحة لدول الخليج فمن الآن الوحش الايراني سيكون صديقا و حليفا , و أيضا لا داع لتقرّب اسرائيلي خليجيّ ما دامت ايران صديقة , و لا يخفى على احد الحرب اليمنية التي تنتهي ما إن يصافح الكفّ الايراني الكفّ السعوديّ .
تناست الولايات المتحدة الامريكية لسنوات طِوال أنّ النهوض الاقتصادي لا بدّ يوما أن يحمل معه ثوران سياسي و تعطّشا نهما للسلطة , السلطة المطلقة التي تجعل الصين تفكّر بشكل كبير بازاحة الولايات المتحدة عن عرش العالم , فهي الآن قوة مختلّ من يستسهل جدّيتها فإن تشدّقت امريكا بالسيطرة على بحار العالم فالصين تسيطر أو على وشك السيطرة على " الشبكة المعلوماتية العالمية 5جي " التي تخوّلها التعمّق في كل معلومة مهما كانت صغيرة ,فهذه التقنية الجديدة تُدخل الدول في مشاعر متناقضة عنوانها " الخوف و الحُلم " فمعظم الدول و على رأسها امريكا باتت تقلق من هيمنة بكين على هذه الحقول المتطورة و في ذات الوقت تحلم أن تسبق التنين في التعمّق فيها و هذا ما يفسّر الحرب الضروس على كل تكنولوجيا صينية المنشأ مثل " تيك توك , هواوي" و غيرها من الشركات و العلامات التجارية .
أمّا في الداخل الامريكي فقد تكون الصين هي المستفيد الاول من انهيار بنك وادي السيليكون خصوصا إن تعمّقنا بالبحث بدور هذا البنك في دعم التكنولوجيا الفائقة و الشركات الريادية الصغيرة التي تُعنى بالتطوير و التكنولوجيا , و من غير الصين سوف يستفاد بتثبيط قدرات و مساعي واشنطن التكنولوجي في السباق المحموم الدائر ؟
في الحقيقة و بعيدا عن نظريات الحرب العالمية الثالثة الكثيرة , في الحقيقة نحن نعيش حربا عالمية من نوعٍ آخر قطباها الصين و من خلفها روسيا و على الضفة المقابلة الولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا , أما المحور الثالث و هم الشرق الاوسط و الدول الأوروبية فيقبعون تحت وطأة " النفوذ و الاغراء " فتماما كلعبة " شدّ الحبل " يحاول كل محور استمالة الاطراف الباقية إلى جهته , هذا ما نراه جليّا في الوساطة الصينية لرأب الصدع السعودي الايرانيّ .
الخطوة الامريكية في رفع الفائدة منذ الحرب الروسية الاوكرانية هزّت الاقتصاد الامريكية من الداخل , فالهلع ينتشر في امريكا و بريطانيا و الكثير من الدول من تداعيات انهيارات البنوك الحاصلة , فالخوف الآن أن تتدحرج كرة الثلج الافلاسية و تتكرّر مشاهد 2008 في هذا العام , الغموض الآن يكمن في انهيار هذا البنك بالتحديد فهل اصابت سهام الصين و روسيا العمق التكنولوجي الماليّ الامريكي كردٍ على تدخّل امريكا في تايوان و اوكرانيا , فعلى وجه التحديد كانت و ما زالت تايوان مصدر قلق كبير للصين من تنامي النفوذ الامريكي في البلد الذي يعتبر عصب و شريان الرقائق الالكترونية التي لا تقلّ اهمية عن الملف النووي في خطورتها و حساسيتها و اهمية السيطرة على صناعتها.
ما يحصل في امريكا و غيرها من الدول يجب أن يدفع العالم للتفكير بشكل جدّي بمسألة ربط العملات العالمية المختلفة بالدولار , فهذا الربط يجعل أي أزمة تضرب امريكا تتوزّع على أغلب دول العالم ما قد يؤدي لشلّل اقتصادي عالميّ خصوصا في الدول ذات الاقتصاد الهشّ أو القابل للانهيار جرّاء أي هزّة , هنا نعود لأساس المقال أن الدفّة الآن تسير باتجاه الفيلق الصيني الروسي الذي بات يضرب امريكا من تحت الطاولة دون الحاجة لضربات مباشرة , فهل تشهد الاشهر أو حتى السنوات القادمة حربا نووية أو تقليدية كتلك التي كانت تشهدها البشرية في العقود المنصرمة كردّ فعل لغريق يصارع الازمات ؟