اذا كانت النفوس كباراً تعبت في مُرادها الاجسام.. "المتنبي"..

صاحب عنفوان كان على امتداد حياته، ظل قابضاً على جمر افكاره وقناعاته، لم يفت في عضده الاعتقال وغياهب السجون، ابن حلحول الفلسطينية ظل صامداً رغم قسوة الاعتقال، شأن الأباة.

في الخمسينات من القرن الماضي كان الاعتقال الاول لهذه القامة الوطنية الكبيرة.

عمّ الحزن والوجوم قري حلحول مسقط الرأس، وتشاء الظروف ان يحل الملك الراحل جلالة الحسين بن طلال زائراً لهذه القرية، وخلال جلوسه على المنصة اطلق طفلان حمامات ثلاثاً امام جلالته –رحمه الله- هنا ادرك سرّ اطلاقها بعد ان علم ان الطفلين هما طفلا محمد عياش ملحم المعتقل، وعلى الفور أمر باطلاق سراحه.

اما الاعتقال الآخر فكان في سبتمبر 1959 في سجن المحطة، وفي عام 1960 واثناء جولة الملك الحسين في الضفة الغربية قدّم اهالي حلحول عريضة اليه تطالب بالافراج عنه، فالرجل لم يكن –دموياً- واستجاب الملك لطلبهم وتم الافراج عنه.

الراحل محمد عياش ملحم "ابو حازم" عاش حياته يحلم بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف، من صفاته انه كان ينصح اصدقاءه "التمترس" في الارض التي ينتمون اليها مادام ذلك ممكناً رغم ان الظروف اضطرته نفسه ان يغادر الى اكثر من قطر عربي، فتارة في السعودية –ارامكو- واخرى في الكويت وثالثة في الامارات العربية المتحدة، ناهيك عن جولاته في امريكا واوروبا.

ابو حازم ساهم في العمل العام باخلاص ومثابرة، وهو الحاصل على اعلى الدرجات في القانون من الجامعات البريطانية.

ساهم –رحمه الله- في تأسيس النقابات العمالية والجمعيات التعاونية والخيرية والاتحادات المهنية وتطويرها والدفاع عنها في فلسطين والاردن والسعودية والكويت، كما انضم الى منظمة العفو الدولية منذ تأسيسها كما كان عضواً مؤسساً في رابطة حقوق الانسان/فرع الاردن.

ابو حازم الذي وصفه قارئ مذكراته الراحل الدكتور عبد الرحمن شقير بأنه رجل "ضليع في القانون غزير الثقافة" هو بحق يمتلك كل هذه الصفات.

يشير ابو حازم في مذكراته التي حملت اسم "في خضم الحياة" انه "لم يشعر ولم يعمل لقضيته الفلسطينية كما عمل في الكويت".، اشاد بمساهمات الشعب الكويتي وافراده ومؤسساته في دعم الثورة الفلسطينية، من هؤلاء الافراد الذين اشاد بذكرهم المرحوم محمد عبد الرحمن البحر الذي أدرج في بند الخيرات تبرعاً سخياً للقضية الفلسطينية امتد حتى بعد رحيله.

ابو حازم كان معنياً باستثمار البترول العربي في الصناعة العربية علماً ان ثلثي الاحتياطي العالمي موجود في المنطقة العربية، ولشدة حرصه في هذا المجال كتب مؤلفاً عن "بترول الشرق الاوسط" وتم انهاء تأليف الكتاب على ان يكتب مقدمته المرحوم عبد العظيم أنيس، ولكن للاسف لم يرَ هذا المؤلف النور إذ تمت مصادرة موجودات المطبعة التي كان موجوداً فيها وضاع الكتاب.

بعد تطواف طويل في الخارج عزم محمد ملحم ان يستقر في الاردن وهذا ما كان مع انه تلقى كتاباً بتعيينه مستشاراً قانونياً في الديوان الملكي في الرياض، إلا انه اعتذر مؤثراً الاستقرار في عمّان.

ابو حازم الذي كان عمله في عمّان في الوسط العمالي تميز بالانسانية في تعامله مع العمال يدافع عن قضاياهم بكل جسارة.

قلت ان المرحوم محمد عياش ملحم كان مؤمناً بقناعاته الفكرية لا يحيد عنها وهو يروي في مذكراته انه حين تم اعتقاله مرة اخرى عام 1966 ولدى ذهابه مع المحقق في سياة عسكرية الى الباشا اللواء محمد رسول الكيلاني، ولدى مقابلته طلب اليه ان يستنكر الاحزاب السياسية، لكنه رفض هذا الخيار حتى يطلق سراحه، مما استدعى اعادته الى الزنزانة ولدى نشوب حرب 1967 على الاقطار العربية ومنها الاردن تم الافراج عن المعتقلين ومنهم ابو حازم.

وبعد، ان هذا المحامي المناضل الذي خبر السجون المعتقلات فلم تزده الا صلابة وعنفواناً هو بحق احد رموز النضال الفلسطيني الكبار. قلّة امثاله في هذا الزمن الاغبر.

لقد جمع ابو حازم –رحمه الله- بين "العام والخاص" بين اداء الواجب الاجتماعي لتخفيف آلام الكثيرين والعمل الخاص في المهنة والبيت، شعاره الدائم كان تمثله بقول الشاعر المصري محمد عبد الحليم:

نحن نأبى ان نرى صرحاً إذا كان حول الصرح اشلاء المقابر
رحل محمد عياش ملحم ولم ترحل ذكراه

ورحمه الله الشاعر حين قال:
اذا أحب الله يوماً عبده ألقى عليه محبة الناس