أي ماتور أو مولد أو آلة, مصمَّمة لغرض معين تظل صالحة لخدمة هذا الغرض طالما أنها مصممة بشكل صحيح، أي لا يوجد فيها عيب مصنعي، ولكن من الوارد أن تعجز الآلة أو المولد عن العمل رغماً عن سلامة التصميم, إذا حدث أن قرر القائمون على أي منها اساءة الاستخدام، وهذا ما يسمى عيب استخدام, والديمقراطية آلة أو مولد، والترتيبات المؤسسية المرتبطة بها تجعلها تنجح إذا التزمنا بقيمها وإجراءاتها وعملياتها ولها «كتالوج» فيه تحذيرات تقول لك ما تفعل, وتجد عادة بجوار بعض الأمور علامة تقول لا تفعل هذا واحذر من هذا الامر.
ولك أن تتخيل إذا قام الميكانيكي الذي يقوم بصيانة الآلة ولنفترضها ماتور سيارة, بوضع زيت ناقل الحركة «زيت الجير» مكان زيت المحرك, أو أن يضع ماء الرديتر في تنك البنزين, ونحن نعلم يقينا أن كل سائل من هذه السوائل له درجة لزوجة معينة ووظيفة يؤديها, ومن غير المتوقع أن تقوم كل السوائل بأدوار بعضها وإلا لماذا التمايز؟ لكن ماذا لو حدث من باب الجهل أو قلة المعرفة أو القصدية, والثلاثة أسباب موجودة في واقعنا, وضع سائل مكان سائل؟ قطعا ستكون الخسائر كبيرة, وللأسف هذا هو حال بعض سياسيينا وأحزابنا, الذين يكررون التجربة الحربية «الفاشلة» قبل عودة الحياة الحزبية عام 1989 وبعدها، حيث كانت تتفاعل وتصنع بنفس منطق المكابرة والمكايدة والمزايدة والمعاندة.
وعلى من يخالف, أن يراجع أسباب الانشقاقات في أحزابنا الشيوعية والقومية والبعثية ولاحقا الوسطية أو الوطنية, التي كانت تنشّق أو تتوحد دون أي جذر فكري أو موضوعي, وأستاذن صديق روى لنا رواية عن تعليق زوجة أمين عام تاريخي على أحد الانشقاقات المؤثرة في التجربة اليسارية, حين قالت ان المنشق كان يفتح ثلاجة منزلنا وكأنه في منزله فلماذا قام بالانشقاق؟ وأظن هذه الرواية تختصر المشهد بمجمله, وتفسر ظاهرة الانشقاقات التي حدثت في مجملها لأسباب شخصانية بحتة أو لضيق بالمنصب, فلا يوجد لدينا تروتسكي أو بليخانوف, فكلهم نسخة ستاليسية رغم التباين الفكري.
اليوم علينا أن نسأل السؤال بجدية وبحسم, هل الديمقراطية لا تعمل في بلدنا بسبب عيب مصنعي أم سوء وعيب استخدام؟ فالمشكلات تستعصي, وتحتاج إلى تحليل من جذورها وليس من سيقانها (المتغيرات الوسيطة) أو فروعها (نتائجها), فالشارع الأردني ليس مستعدا, وللتوصيف أكثر, النخبة السياسية مشغولة بتسجيل المواقف ولا تبحث عن حلول عملية للمشكلات، الاحزاب في كثير من الاحيان لا تعرف أن تدير اجتماعاتها ونقاشاتها بشكل منضبط، ومجلس النواب جسد مقولة إننا نستخدم نفس الشبكة لاصطياد نفس السمك من نفس النهر, رغم كل التجارب السابقة التي خرجت بيها الصنارة فارغة.
نحن نتعامل مع ما هو ملّح وننسا ما هو مهم, فنحن نبني البنيان وننسى الانسان, وهذا يعني لو جاءنا مال قارون ستكون النتيجة صفر, نحن بحاجة الى اعلاء او احياء المدرسة الوطنية للادارة, يلتحق بها كل الذين يطمحون او يعملون في مناصب عليا في أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والإدارية، فيها برامج متنوعة تجمع بين القانون والاقتصاد والسياسة والإدارة والعلاقات الدولية, وعلم الاجتماع وعلم النفس, والتسويق وتكنولوجيا المعلومات والإحصاء والمهارات الشخصية, مثل القدرة على التواصل والإنصات والتفاوض وإدارة الاجتماعات والتفكير النقدي والابتكار, والمقارنات ودراسات الحالة وغيرها، هذا هو التكوين العلمي المنضبط لمن يريد أن يتولى المسؤولية في البلد، أهم ما في المدرسة، إن أي شخص في منصب كبير في الدولة من عضو برلمان إلى وزير إلى محافظ, إلا ويكون درس وتخرج في هذه المدرسة، ونحن لن نخترع العجلة من لا شيء، لدينا معهد للإدارة يحتاج إلى توضيب ولدينا كلية إعداد القادة، تحتاج إلى تطوير، ونضع في القانون ما يلزم من يترشح للمناصب العليا، من وزراء أو أعضاء برلمان أو محافظين، بأن يلتحقوا بهذا المعهد خلال 3 سنوات مثلاً، ويقوم على إدارة المعهد ذوات ممن علموا جيدا ولا ضير من الاستعانة بمغتربينا أو خبراء أجانب كمحاضرين زائرين.
صحيح اننا، نحتاج برنامج تأهيل الشباب للقيادة, لكن المشكلة الأكثر إلحاحاً هو الاحتياج لنخبة سياسية وإدارية.
(الراي)