لم أستطع تجاوز خبر سجن رجل ناطح الثمانين بسبب بيعه للعلكة على إشارة، تحشرجت حروف نص القضية في صدري وطعنت وجداني، ابتلعتها قهرا واستفرغتها هما، لأجد نفسي في نهاية المطاف رافعا القبعة خافضا الجبين راجيا إياه أن يبتسم، فهذه نعمة.
ابتسم يا عم، ابتسم وسر الفؤاد على ما وجدت، ابتسم لأنك وأخيرا بعد طول عذاب في الشوارع ستجد سريرا تحت سقف يأويك ثلاثة شهور كاملات، ما الضير... ما الضير على من ذاق ملئ الأرض كمدا أن يستريح!
أنت يا طيب الله وجهك الآن في المركز الأمني، سيقف أمامك رجل الأمن الحقيقي مقشعر الجسد مبتل الجبين؛ فقسمات وجهك المطوية من طول السنين ستذكره بما يجد في وجه أبيه عندما يفكر في مستقبله المتعسر بحثا عن منزل وزواج، أقسم لك يا عم بأن هذا الرجل والرجل الحقيقي لن يناديك بغير عمي أو يابه تبعا لما جرى على لسانه، وسيكسر كل بروتوكولات الجهاز بقبلة يشهد فيها بأنه رافض.
ابتسم يا عم، ستدخل مهجعك يا عم ليشب أول شاب في السرير الأول طالبا منك الراحة محله، فهو يدرك كل الإدراك بأن هذا مستقبله إن استكر الحال، ويدرك كل الإدراك بأنك جئت مثقلا منغصا، سيقبل منك اليد يا عم، وماذا عسى الشباب أن يفعلوا غير هذا أمام وطنهم!... لا شيء.
ابتسم يا عم، فالآن حط عامودك الفقري المتهتك من وجع الانحناء على شبابيك السيارات على فراش مرفوع عن الأرض لأول مرة منذ دهر بعيد، ستسمع طقاته واحدة واحدة حتى يستقر سكونا لتطلق تنهيدات عمرك، أنك حي.
ابتسم يا عم؛ سيجتمع كل الهاربين من المجتمع حولك، الفضول قتلهم والشك ملأهم، من هذا العجوز يا ترى؟ هل هو السرمدية الخالدة في هذه الأرض، هل هو كتاب حياتنا؟ سيرجونك جميعا أن تحدثهم وأن تحدثهم عن أي شيء خارج السور، السور العالي.
ابتسم يا عم؛ فالآن فقرة العشاء التي سيجتمع لك فيه العناصر الغذائية الرئيسية بعد أن بكى منك القولون من هول الفلافل والفول، سنأكل لحما يا عم الليلة.
ستمر الثلاثة من الشهور سريعا يا عم، ستتوج فيهن زعيما، فبعد أن مزقت طبلة أذنك من صراخ الزوامير و"حل عني يا ختيار" ستسمع أخيرا "عمي" و "يابه" و "حجي"، وسيغسل لك الشبان الأقدام استعدادا للوضوء كل صلاة، هذه نزهة يا عم، نزهة.
ابتسم يا عم، فالشمس التي نسجت من جمجمتك وعاء يغلي لن تعود فوقك إلا في ساعات التشميس، هل تتخيل أنك ستشتاق الشمس التي لعنتها سنينا وسنينا؟، والشعر يا عم... سيحلق لك باحتراف بعد أن رفضك كل الحلاقين، ستكون عريسا.
أنت الآن على باب السجن يابه تستعد للخروج مرة أخرى، مرة أخرى نحو قبحنا ولعنتنا، وستشتاق يا عم، ستشتاق للسجن الصغير...