"الاستثمار في المعرفة يدوم طويلاً، والاستثمار في المال ينفذ بسرعة."

هذه مقولة منسوبة لبنجامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، وواضعي دستور الدولة فيها.

وقد استوقفتني كثيرا على بساطتها وهي حكمة معروفة بأكثر من صيغة وربما أكثر من لغة، لكنها على كمية ما فيها من حكمة إلا أنها لم تكتمل بالمعنى، فالدول قامت أساسا في بداية نشأة المجتمعات البشرية الحديثة لخدمة مواطنيها وتقديم الخدمات لهم وتوفير سبل العيش الكريم لمجموعهم.

نعم، بلا شك أن الاستثمار بالمعرفة يدوم طويلا، لكنه ليس غاية في حد ذاته بل هو جزء من صيرورة بناء مستمرة في المجتمعات الواعية لوضع الاستثمار المالي نفسه في الطريق الصحيح، طريق التنمية لتلك المجتمعات، تنمية مستدامة ودائمة، تتقدم وتتطور بتطور تلك المجتمعات والدول.

هذه مقدمة تجعلني أفكر بدولتنا الأردنية وقد احتفلنا بمئويتها الأولى وقد اكتمل بناء الدولة بمؤسساتها ومنظومتها القانونية لكننا على بوابة مئويتها الثانية نضع أسئلتنا المشروعة لنواجه واقعنا في مجال الاستثمار والذي صار الكل يشكو من أزماته وعثراته، مما يعطل التنمية، وهي الرافد الأساسي لاقتصاد المجتمع والحل الجذري لأزماته المتصاعدة في البطالة والفقر المنتشرين في كل مكان.

الاستثمار في المعرفة يشمل أن نستثمر في ما لدينا من إمكانيات بشرية وفكرية ومعرفية للوصول إلى حلول عملية في قطاع الاستثمار، وليس مهما هنا عدد قوانين وتشريعات ولوائح الاستثمار التي يمكن أن تتجاوز في بلدنا الحبيب العشرات، لكنها على وفرتها لم تحل الواقع المستعصي في جذب الاستثمارات أو على الأقل في وقف هروب المستثمرين من الأردن، وربما كانت كثرة التشريعات واللوائح والتنظيمات بحد ذاتها هي من معيقات الاستثمار بدلا من أن تكون حاضنا لهذا القطاع.

المعوقات في قطاع الاستثمار الأردني متشابكة وكثيرة، لكن تفكيكها يحتاج ربما إلى خارطة طريق تبدأ بتفكيك ثلاث معيقات رئيسية تتوالى بعدها عملية تسهيل بناء قطاع استثماري يرفد الدولة ويحقق في مخرجاته التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، وهي :

１-البيروقراطية: حيث تعتبر الإجراءات المطلوبة للحصول على التراخيص والموافقات والإجراءات الجمركية معقدة وتستغرق وقتاً طويلاً، وتحقيق فكرة النافذة الواحدة للخدمات فكرة عملية والأفضل منها فكرة الخدمات الإلكترونية التي تعتمد أنظمة محوسبة وذكية لا تعرف المحاباة ولا المحسوبية.

２-عدم وجود تشريعات واضحة: يعتبر هذا العامل من أهم المعوقات التي تواجه الاستثمار في الأردن، حيث يعاني القطاع الخاص من غياب قانون يحميه ويوضح الإجراءات اللازمة للتعامل معه، وعلى كثرة التشريعات واللوائح وكذلك الهيئات المعنية بالقطاع الخاص والاستثمار إلا أن تشريعا واضحا شاملا سيكون فرض كفاية عن باقي التشريعات التي تتمدد كأغصان ملتفة تخنق الاستثمار والمستثمر.

３-الفساد: يُعتبر الفساد أحد أهم العوامل التي تعوق الاستثمار في الأردن، حيث يؤثر سلباً على مستوى الثقة بين المستثمرين والحكومة، ويزيد من تعقيد الإجراءات الحكومية ويزيد من تكاليف الاستثمار، والفساد يأتي في صيغ متعددة وقادر على أن يختبئ في مفاصل صغيرة داخل الجهاز البيروقراطي نفسه.

ولأننا قلنا في البداية إن الاستثمار في العقول حالة ضرورية فإن العقول الأردنية الواعية والعارفة والمتعلمة قادرة على أن تضع حلولا فعالة تجلب المال اللازم وطرق توظيفه الأمثل وهو ما يتطلب حوارا وطنيا شاملا يجتمع فيه على طاولة عمل واحدة أهل القانون والاقتصاد والإدارة والمتخصصون من ذوي الخبرة لوضع أسس جديدة تؤسس لدولة أردنية جاهزة للتوافق مع عالم تغير بالكامل في أدواته ومنهجيات تفكيره.