لم يجمع الاردنيون على شيء بمقدار اجماعهم على تراجع الإدارة الأردنية وكذلك مستوى الخدمات تبعا لهذا التراجع, ولم تلتفت حكومات كثيرة الى هذا التراجع, حتى اختل العصب الاقتصادي وتراجع الاستثمار, وباتت الشكوى عامة وخاصة, ولم يسلم قطاع من التراجع ولم تسلم ادارة من التردي, لاسباب كثيرة منها الموضوعي الناجم عن تناسل المؤسسات والادارات وتضارب المرجعيات الادارية وتناقض المستويات القانونية, ومنها توسيد الامر لغير اهله, مما اربك الكادر الاداري وجعل الاكفاء يجلسون تحت إمرة من هم دونهم كفاءة وخبرة ومعرفة.
كان العلاج في بادئ الامر اقل كلفة, كان فقط يحتاج الى هندسة الاجراءات, ومواكبة التقانة والحداثة, لكن التنافس على الصلاحيات وتضارب التعليمات كانا السبب الاكبر في اختلال الادارة وتراجعها, فكل معاملة كانت تخضع لسيف موافقات اطراف متعددة, فوزارة تقبل واخرى ترفض او تماطل او تحتج على صلاحية سابقتها, وكانت الموافقات تحتاج الى اطار عريض من التواقيع والاجراءات وكأننا في بداية القرن او في بواكير الدولة, ناهيك عن اللف على الكعوب بيين المؤسسات والوزارات, فترخيص بناء كان يحتاج الى دورة مكوكية بين اجهزة متعددة فما بالك بترخيص مصنع او شركة, ويزداد الامر صعوبة وسوءا اذا كانت الغايات حديثة او غير متوفرة في قائمة الغايات.
لوهلة, كانت الامور تسير وكأنها حرب طاحنة بين المسؤولين, فما يقبله هذا يرفضه ذاك, وليس من المبالغة وبابها, ان موظفين المكاتب من الفئات الوسيطة وما تحتها كانوا قادرين على تمرير معاملة مخالفة لكل التعليمات والانظمة او تعطيل معاملة تحمل كل اسباب واشتراطات الموافقة, ونجحوا في الاستثمار اما بضعف الادارة الجديدة الهابطة بمظلة على الموقع, او بحصرها واغلاق الابواب عليها حتى لا تحتك بالمراجعين, وباتت رخصة بسيطة او تجديد وثيقة او رخصة تحتاج الى فزعة نيابية او واسطة من العيار الثقيل, واحيانا الى شيء من بركة كف اليد, ومتى ننصف الحالة فإن مؤسسات بعدد اصابع اليد الواحدة نجت ونجحت من هذا المرض, مثل دائرة الترخيص ودائرة الاحوال المدنية والجوازات ومؤسسة الضمان الاجتماعي نسبيا.
اليوم فتحت الحكومة بوابة تطوير القطاع العام بمحاورها المتعددة واستهدافاتها الكثيرة, ومن ثم ولجت الى عش الدبابير واعني الهيئات المستقلة التي تناسلت مثل الارانب في غفلة من الزمن, فتعمل بعض الهيئات بقانون فيما الوزارة المعنية والمسؤولة والخاضعة للمساءلة تعمل بنظام, ولا يمكن فهم ذلك الا في سياق غياب المنهجية وتناقض الفهم والارادات والرغبات, وبما يحقق مصلحة طبقة ادارية مدعومة بنهج سياسي تفكيكي او تدميري, حتى نصل الى حالة اشبه بالكفر الوطني, فغادرت الكفاءات اما الى الخارج او الى القطاع الخاص, واعتزل الموظفون الجادون او عُزلوا قسرا, وساد المشهد محدودي الخبرة والكفاءة من اصحاب المؤهلات الرفيعة في المداهنة والمجاملة او لمؤهلاتهم في المطبخ او النسب.
نحتاج بسرعة إلى فض التنافس على الصلاحيات وازالة التناقض بين التعليمات وهندسة الاجراءات واتمتتها تبعا لذلك, وعلى الحكومة ان تسرع في انهاء هذه الثلاثية لانها قادرة على منح المواطن بارقة امل سريعة الى حين اكتمال حلقات تطوير القطاع العام الذي تحتاج خارطة طريقه الى سنوات.
(الراي)