في الأدبيّات المتخلفة وغير الحضارية يسود هناك قول مفاده تحليل المال العام للسارقين واللصوص والمتطاولين فيقال " ماهو مال حكومة" بمعنى أنه مشاع لكل من تسوّل له نفسه الإعتداء على المال العام، مع أن هذا المال هو ملك المواطنين أجمع وبالتساوي، فلا يحق لمسؤول أن يتصرف به لخدمة فئة دون أخرى أو شخص دون آخر.
أصيبت معدة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً بأذى، فوصفوا له العسل، فقال ولكن ليس لدي منه شيء. فأشاروا عليه بأن هناك عسلاً في بيت مال المسلمين، فتكدر وجهه وقال كيف لي أن استأذن كل مسلم في كل ديار ليأخذ عمر جرعة عسل. وأضاف قائلاً لمن أشار عليه قاتلكم الله تريدون أن أُدخل مالاً حراماً إلى جوفي فأدخل النار.
لا أدري لمن أوجّه هذه الملحوظة، ولكن يفترض أن يكون المخاطب الأول رئيس الوزراء. لذلك سأتوجه إليه بالقول.
هناك تسيّب واضح في المال العام. وهناك إهمال في استخدامه واستغلاله لصالح أشخاص لا يحق لهم بأي قانون من قوانين الأرض أن ينالوا هذا الاستثناء.
لقد سبق أن كتبنا وكتب العشرات غيري عن هذه القضية الشرسة والتي تمثّل أكبر مظاهر الفساد. ولكن يبدو أن لا أحد يقرأ، وإن قرأ هذا "الأحد" فسيكون جوابه اتركوهم "يعوون".
فقط سآخذ بعض المظاهر، كم تدخّل مسؤول "شخصياً" مع مسؤول آخر ليستثني إبنه أو ابنته أو أي من فروعه أو أصوله أو أصدقائه من هذا القرار أو ذاك؟ كم سيارة حكومية، أي أنها "مال عام"، تحمل إبن هذا المسؤول أو ذاك لتوصله إلى المدرسة أو إلى الجامعة أو إلى حفلة عيد ميلاد أحد أصدقائه؟ السيارة للحكومة، والوقود من مال الحكومة، والسائق يتقاضى راتبه من الحكومة، والوقت المهدور مال حكومة، فبأي حق يعتدي هذا المسؤول على كل هذا؟ بل وأكثر من ذلك فهناك سيارات فارهة وضخمة ومخيفة من حيث شكلها، لا يكتفي سائقها، وطبعاً بأمر المسؤول، أن يوصل هذا أو ذاك، بل وينتظره أحياناً لساعات حتى يعود به إلى منزله؟
وقفت على حادثة قديمة تتلخص في أن أحد المحافظين كان يرسل يومياً "جيب شرطة" من بيته إلى مكان يبعد "نزولاً" قرابة الأربعين كيلومتراً، ليحضر له "كيلو حليب" ويعود إلى بيت المحافظ أي صعوداً أربعين كيلو متراً. بأي حق يكون ذلك؟ وكيف كانت تسوّغ له أكل مال حرام اسمه "مال حكومة"؟
وبالمقابل فإني أعرف أحد المسؤولين الذي كان يدير مؤسسة تعليمية/قطاع خاص، لم يستخدم خلال أربع سنوات من خدمته السلفة التي أعطيت له، وإنما كان يغطّى المصاريف الخاصة بمكتبه من جيبه الخاص. وكان يستخدم سيارته الخاصة في كل تنقلاته حتى الرسمية منها. ثم انتقل إلى القطاع العام، وأصبح يشغل منصباً عالياً، ويملك صلاحيات واسعة. إلا أنه ظل على عادته السابقة، فسيارة "الدولة" لا يستخدمها إلا في المهام الرسمية، وبعد انتهاء الدوام الرسمي يصرف سائقه ويبدأ باستخدام سيارته الخاصة ويقودها بنفسه، حتى أننا أصبحنا نسميه شقيق عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس الذي كان يطفأ سراجه المملوء بزيت بيت مال المسلمين إن كان من يزوره قد أتاه بأمر شخصي.
المال العام، يادولة الرئيس، فيه هدر كبير، وأصبح جزء منه "مالاً سائباً". فالمكتسبات توزع منحاً لأقرباء المسؤول، وتعطى هبات لأصدقائه واصحابه. الاف المخالفات هي واقعة يومياً في طول البلاد وعرضها، ولابد من التصدي لها ووقفها. ومن هنا يبدو أننا نعاني من مرض اسمه "مال حكومة" والشاطر هو الذي يكبّر سرقته من هذا المال، لأن لا حسيب هناك ولا رقيب.
وأرجو هذه المرّة أن لا نُسمّى "العوّايين"، وإلا فأننا سنسائلكم أمام الله وأمام سيدنا وأمام الشعب الذي أصبح في حالة من القهر لا توصف، مما يرى من محسوبيّات وواسطات وتدخلات وظلم.
" مال الحكومة " أمانة في أعناق المسؤولين يجب أن يحافظوا عليه، وأن يحرسوه، وان يتوخوا العدل والصدق في توزيع القيم السلطوية في الدولة، وأن يعيشوا في سلمٍ مع انفسهم أولاً ومع المواطن ثانياً.