هكذا هم العظماء يدخلون الحياة والتاريخ من أوسع الأبواب، هكذا هم العظماء لا يعرفون من الأمور سوى أقصاها، ولا يعرفون من المجد سوى جوهره، هكذا هي نابلس جبل النار لا تعرف من الكرامة سوى رأس هرمها، ولا تعرف من الحضور سوى كماله، ولا تعرف لونا للوجود سوى الأحمر تفوح منه رائحة دماء شهدائها، فهي نابلس هذه المدينة التي لم تعرف يوما وصفا لها سوى المدينة الثائرة على الظلم والاحتلال.
أيام مضت على هذه المدينة الساكنة بين جبلين تأخذ منهما صلابة الحضور، وإصرار الصمود، أيام وصلت آلات الحرب الإسرائيلية وسطها، ولمن لا يعرف نابلس فوسط المدينة هو تاريخها وحاضرها وقوّتها، ناهيك عن طبيعة بيوتها أو قصورها إن صح التعبير متلاصقة لا مجال لأن يتضرر منزل دون الآخر، فالضرر يلمّ بجميع المنازل، لتدخل آلات الحرب غير آبهة بتقارب المنازل ولا بالمارّة من مدنيين أطفالا وشيوخا ونساء، تحاصر منزلا يوم الأربعاء الماضي في وضح النهار ما بين التاسعة صباحا وحتى الواحدة ظهرا وسط إطلاق كثيف من النار على جميع المارة، ومن ثمّ تطلق صاروخا على المنزل المستهدف.
بعد هذه الجريمة التي تناست بها إسرائيل أن في هذا الشارع أحياء وبشرا وأشخاصا، لينجم عنها استشهاد 11 من أبناء شعب أعزل، بينهم أطفال وكبار سن، بالإضافة لما يقارب 110 جرحى، ست إصابات منهم خطيرة، في حين أصيب المئات من المواطنين بالاختناق من قنابل الغاز، كل هذا في «حارة الشيخ مسلّم» هذه الحارة المعروفة في نابلس بأنها مسالمة وآمنة، وتأخذ طابعا دينيا يحيا سلاما داخليا وحتى خارجيا، لتصله أداة الحرب الإسرائيلية بجريمة متعمّدة سابقة الإصرار والترتيب، مستهدفة «حسام اسليم، ووليد الدخيل، ومحمد عبد الغني» الذين ارتقوا شهداء بعد استهدافهم، ولحق في ركبهم ثمانية شهداء بينهم أطفال.
ما حدث يتناقض مع القوانين والأعراف الدولية، ومع كل معاني الإنسانية، ففي كل مرة تصر إسرائيل على اباحة قتل الفلسطيني أيا كانت صفته وعمره وديانته، لمجرد أنه فلسطيني، وكأنها تبني سياساتها بهذا السياق على أساس التطهير العرقي والعنصرية، دون أي التزام بأي قوانين ولا حتى عهود، ولا أي اعتبارات إنسانية، المهم هو تنفيذ مخططاتها وسياساتها، ونهجها، مغلقة كافة الأبواب أمام أي خطوة من شأنها رؤية السلام ينير سماء المنطقة.
في نابلس تحديدا استشهد منذ بداية العام 17 شهيدا فلسطينيا برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، بينهم 5 أطفال، من اجمالي 62 شهيدا فلسطينيا ارتقوا برصاص الاحتلال الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية، وتستكمل مسيرة نضالها يوما بعد يوم، وساعة تلو الأخرى، بإصرار على رفض الاحتلال، ونيل حق وجودها رغما عن كل مساعي إسرائيل لانتزاعه، وجعله حقيقة ملموسة.
نابلس، هكذا أنت ويبدو أن الاحتلال ما يزال يرى فيك شيئا من الضعف، متناسيا أنك واجهت نابليون وجيوشه ومنعته من دخول أراضيك، يا سيدة الأرض، وزينتها، يا جبّارة الحضور، والنضال، نابلس لا تحميك الأعذار ولا الحجج ولا أي كلمات تدور في فلك القول، فلا تعرفين سوى حقيقة واحدة أنكِ بلد لا يجيد اهله سوى العيش بحرية واستقلالية، وما يحدث في كل مرة أنك تقدّمين درسا جديدا للاحتلال الإسرائيلي، بأنك باقية بقاء الزمن حرة أبية، جميلة أنتِ، صامدة، رائحة الياسمين تفوح في شوارعك وحاراتك، ولرائحة ياسمينك أريج لا يشبه عطرا على هذه المعمورة، نابلس.. هكذا هم العظماء.
(الدستور)