لأن الأمومة هي أعظم المهام على الإطلاق، حاولت أن أعيشها بكل تفاصيلها، وبحثت عن كل الوسائل التي تساعدني في الوصول إلى أبنائي، وحرصت على تمهيد الطرق تحت أقدامهم الصغيرة، كثيرة هي المهمات التي ألقتها الحياة علي، ولكن الأمومة هي المهمة الأصعب والأجمل والأكثر تحديا، المهمة التي لا تحتمل الفشل ولا مكان فيها للتقصير.
عندما أبحث عن السعادة، أشتبك مع الذكريات، وأعثر على معظمها في غرفة أطفالي، تلك الغرفة التي لم أسمح حتى الآن أن يطالها التغيير أو التحديث، فهي كما هي منذ وجدت، بلونيها الأزرق والأبيض، وستائرها المزينة بالورود، ورفوفها التي تحتضن ألعاب أبنائي وكتبهم والقصص التي كنت أقرأها لهم، في هذه الغرفة تزدحم الذكريات، تختبيء في كل الزوايا، وتطل علي من الخزائن والأدراج، ويستريح الكثير منها تحت السرير، وكلها تناديني كلما اشتقت لتلك اللحظات، فتعود لمسامعي أصوات أبنائي الصغيرة، وضحكاتهم البريئة، وكل التفاصيل.
عندما تنظر في عيون أطفالك، ستدرك حجم المهمة العظيمة التي عليك القيام بها لحماية هذه الأرواح الصغيرة في هذا العالم الكبير، ولأن الحاجة أم الاختراع، تخترع الأمهات كل الحلول لكل المشاكل، عندما كان أبنائي صغارا كانت مشاكلهم صغيرة أيضا، ولكن كان إيجاد الحلول لها صعبا أحيانا، كان "ستروبي" - وهو شخصية كرتونية تجسد البكتيريا - معينا جيدا لي في الأمور الطبية، وكان وجوده يساعدني على شرح سبب ارتفاع الحرارة مثلا وسبب الشعور بالألم، وبالتالي ضرورة تناول الدواء المر لأنه الوسيلة الوحيدة للتخلص من "ستروبي" الشرير الذي هاجم اللوزتين وتسبب بالمرض، أما إذا تسبب هذا المزعج بتسوس الأسنان، فلا بد من زيارة الطبيب ليخلصنا منه، وبالتالي فإن أي إزعاج أو ألم في عيادة الأسنان هو موجه فقط ضد ستروبي الذي يجب أن يبتعد ليزول الألم.
كانت صغيرتي رشا تخشى الظلام، وكانت بارعة في خلق الوحوش الذين لا يزورون غرفتها إلا وقت النوم، كان لهذه الوحوش أسماء وألوان وصفات معينة، فعندما كنت أقبّلها على نية الخروج من الغرفة، كانت تتجلى قدرتها على إبداع الوحوش لتضع أمامي كل يوم تحد جديد للتغلب على وحش جديد!، سألتها ذات ليلة: كيف يبدو هذا الوحش الشرير؟، فأجابت له عين واحدة كبيرة جدا ولونه أزرق واسمه رامبوشي!، فقلت: مرحبا رامبوشي أفندي، ما رأيك بأن نصبح أصدقاء؟، تحدثنا هي وأنا مع رامبوشي ذي العين الواحدة، واتفقنا معه على تفاصيل كثيرة، ولم تنتهِ تلك الجلسة حتى أصبح رامبوشي وحشا جميلا تحبه صغيرتي ولا ضرر من وجوده ولا من وجود ذلك الآخر ذو الأنف الكبيرة جدا، أصبح عالم الوحوش هذا مسليا جدا، فصغيرتي تكشف لي عن كل مخاوفها، وأنا أفككها بحذر كل ليلة كمن يفكك قنبلة ويخشى أن يخطيء فتنفجر في وجهه، كان سبراي الوحوش هو الحل لتلك الوحوش التي رفضت أن تلعب معنا لأسباب اخترعتها رشا!، الجميل في الأمر أن هذا السبراي كان قويا جدا لدرجة أن رشة واحدة منه كفيلة بالقضاء على كل الوحوش التي تجول في الغرفة، لقد كلفني ذلك الكثير من سبراي الشعر الذي لا يعلم كثيرون أن له مفعولا سحريا للتخلص من وحوش الليل!.
تتطور أساليب الأمهات كلما تطورت مشاكل الأبناء، وتستمر الأمهات بالبحث عن الحلول الأكبر للمشاكل الأكبر، ولكن يبقى للحلول التي يتوصلن إليها سحرا خاصا، فمجرد الدعاء والرضا قد يكون حلا عظيما لمشكلة عظيمة، الأمومة مهمة مقدسة، لها بداية ولكنها لا تنتهي أبدا، فأنا أعتقد أن أرواح الأمهات تستمر في التحليق حول الأبناء حتى بعد أن تغادر أجسادهن هذه الأرض.
في مرحلة معينة، يكبر الأبناء وتتبدل الأدوار، وتصبح الأيدي الصغيرة قادرة على احتضان الأيدي التي تجعدت ونال منها الزمن، ويجد الأبناء أنفسهم مسؤولين عن إقناع ذويهم بشرب الدواء المر، وعن شرح الأسباب التي تضطرهم لترك آبائهم لفترات طويلة فرضتها عليهم ظروف الحياة، وتبقى المهمة الأصعب في التعامل مع مخاوف الآباء والوحوش التي تزورهم ليلا، خاصة وأن معظمها تتعلق بالخوف على الأبناء من تصاريف الحياة، ليبقى السؤال: هل سيجد الأبناء حلولا لمخاوف الآباء، أم ستشغلهم الحياة وتنسيهم كم كان الهروب ليلا لسرير الآباء هو ملاذهم الوحيد من عتمة الخوف؟.