وادي النوم وشجرة الألف عام
عبدالرحيم العرجان
19-02-2023 12:14 PM
أشجار تحمل في طياتها الكثير من الحكايات، والتي نُسبت إليها الأساطير والخرافات، أما الوادي فقد تشابكت فيه الأغصان للراحة والسكينة بجانب المنازل التي غاب عنها ساكنوها.
وادي النوم
بعد زيارة جامع لستب الذي يعود بعمارته للعصر الأموي أقدم مساجد المملكة، وموقع تل مارالياس الاثري والمعتمَد من الفاتيكان كموقع حج مسيحي ومكانٍ مقدس، توجهنا لنقطة بداية مسارنا لوادي النوم بارتفاع 360م فوق مستوى سطح البحر، وبمسار استجمامي بدأ من شفا الغور في أيام سعد الذابح بفصل الشتاء البارد، ضمن مجراه المحدود المساحة، ودرب غابت فيه آثار عابريه بفعل سيل الشتاء الموسمي، وعوائق محدودة لا تحتاج لمعدات أو مساعدة من رفيق لاجتيازها، مستكشفين ما نبت فيه من فطرٍ متعدد الأصناف والأشكال بين أشجار الخروب والنبق، وما تساقط من أوراق البطم والعبهر، وبين جذور السنديان والملول فهو يكثر في الأماكن الرطبة الظليلة، ولمعرفة الملائم للأكل منه يحتاج إلى خبرة ومعرفة تامة لتجنب السام منه، الذي قد يؤدي إلى الموت ولهذا اترك الطبيعة لبارئها.
وما بين هنا وهناك تفتحت أزهار الرجف حيث يطلق عليه اسم "صابون الراعي" نسبة لاستخدام الدرنات للاستحمام، أما الحويرة فكان بداية ظهور زهرتها البيضاء الصغيرة، وغيرها الكثير مما سوف نعود لنوثقه مع فصل الربيع لعذرية المكان وتنوع ما فيه من حياة فطرية.
أخذنا الدرب تحت أغصانٍ متشابكة وثمار بلوطٍ حول بالمكان، وصوت حثيث الشجر يملىء المكان مع كل نسمة هواء، كسمفونية تتداخل فيها صوت أقدامنا بكل خطوة بقرقعة حجارة أو خشخشة ما تساقط من أوراق على الأرض، حيث غاب عنها صوت نقار الخشب المختفي بمكمنه بما يثقب بمنقاره من ممرات، بجذوع البلوط والسنديان، وكما علمنا أن النمس والوشق يعيشان فيه إلى جانب الخنزير البري وآخر ما شوهد من ضباع كان قبل عام إلا أنه نادر الظهور.
دير الصمادية
إلى أن وصلنا لرأس التل المشرف على ما زرناه قبل البداية "لستب ومار إلياس ودير الصمادية" المعروف سابقاً ببيت الرهبان، بنيت على أنقاض دير قديم، أما الصمادية فهي كلمة مشتقة من "الصمَاد وهو المنديل الذي يلفه الرجل على رأسه دون العمامة.
أخذنا جولتنا بالبلدة التي هجرها أهلها تاركين بيوت وعقود متجاورة بنيت باحترافية بسواعد أهلها من حجر وطين وتبن، وقد طليت بالشيد الأبيض المائل للزرقة لدخول نيله الغسيل بصباغته والشبابيك التي كانت مرتفعة لضمان الخصوصية، ومرابط خيل وآبار ما زال بعضها يتجمع فيه ماء الشتاء عبر قنوات ومزاريب، ونظام عمارة يشّدُك روعة بنائه بما فيه من "كُور" مخبىء القمح والبقوليات من عدس وفول وحمص، وتقسيم البيت بطبقات للسكن وأخرى للأغنام، حين كان اعتماد أهلها على تربية الماشية بالدرجة الأولى، وحول الدير عدد من المغر والكهوف بعضها أثري استخدمت لنفس الغاية.
شجرة أم الشرايط
أخذنا الطريق المرسم باحترافية من قائد المسار ما بين بلدتي الهاشمية المعروفة سابقاً بفارة، ويقابلها الوهادنة وصولاً لوادي نعمة وغايتنا هناك "أم الشرايط" وهي شجرة بلوط عقابي معمرة، يزيد قطر ساقها الملتف عن المتر ونصف، دار حولها كثير من الروايات ونسبت إليها الخرافات حين كان أهل المكان يأتون لربط "الخلعة" وهي قطعة قماش منزوعة من ملابسهم، إيماناً بها بتيسير الأمور وجلب المسرات وفك الكَرب وذلك لعهد قريب، حيث تعود ملكيتها لرمزي الغزو من رفقاء المسير والترحال.
خربة الشيخ راشد
وبعد استراحة وفنجان قهوة على المطل المشرف على بحيرة طبريا إلى مشارف البحر الميت جنوباً، سلكنا طريقنا بين أشجار الزيتون والصبر واللوز وصولاً لمفترق الطريق المؤدي إلى مقام الصحابي عكرمة بن أبي جهل و لمنطقة الحروث وخربة الشيخ راشد.
ستة بيوت وثلاثة مغر ومثلهم مطابخ محاطة بسور وآبار كانت قائمة على خدمتها وبينها آثار لجرون طحن وقنوات للحصاد المائي تعود ببنائها للفترة العثمانية كما أخبرنا مالكها د. محمد أبا أحمده الذي ينوي إعادة إحياء بيت أجداده والمحافظة عليه ليكون نزلاً بيئياً، ودار استضافة سياحي ومصدر رزق وتشغيل لأبناء المنطقة، حيث تشرف اطلالته على الأغوار الشمالية وبيسان والجليل، وأن تحقق ذلك سيصبح مقصداً مهماً لجذب عشاق المسير والترحال وطالبي الخلوة في الطبيعة.
شجرة هجيجة/ الدومة
وبعد حديث مشوق مع صاحب المنازل، استكملنا رحلتنا لشجرة هجيجة المذكورة بكتاب استكشاف نهر الأردن والبحر الميت للمستشرق وليام لنش ضمن رحلة بعثه مشاة البحرية الأمريكية، أما هجيجة فهي شجرة سدر تمتد بأغصانها وجذورها على ما يزيد من 2000م بين تل هجية ورأس العين، متجاوزة بعمرها عن الألف عام.
وما أن تدخل بين جذوعها الأفعوانية حتى تتأكد من وصف سيلا ميرل لها بالشجرة المتوحشة 1881م، والتي تعيدك أغصانها لشقاوة الطفولة ورغبة التسلق، والشعور بأمانها كأنها تحتضنك من كل مكان، إلا أن هناك جذع حاول أحد الدخلاء قطعه بمنشار كهربائي فأوقفه الأهالي الذين يخشون عليها كخوفهم على أبنائهم، وآخر احترق وهذا يتطلب دور وزارة الزراعة بإقامة سياج حولها "مع أنها مملوكة" لمنع العبث الغير مسؤول حفاظاً عليها ومعالجتها مما ينبت عليها من طفيليات تتغذى على عصارتها والتي تعد من النوادر بالمنطقة.
ومقابل الشجرة عين ماء، حيث شربنا منها والتي تحمل ذات اسم الشجرة، ولها حكاية تقاسم دور السقاية حسب اتفاقية وُقعت بين الأهالي منذ عام 1936م، بتقسيمه إلى حصص وفصول النهار، منه إحدى عشرة ساعة، أما الليلي فثلاثة عشر ساعة حسب العرف عبر القنوات والأنابيب، وهناك أنهينا مسارنا الاستجمامي التراثي البيئي متممين تسع عشرة كيلو متر بسلام.