عندما تُطِلُّ من شرفة منزلك في يوم ماطر، وتذكر اللحظات التاريخية، نعم اقول التاريخية، لأنك قد لا تستحضرها بين عينيك وفي قلبك، الا أنها كانت ذات بصمة تاريخية في حياتك، لحظات بين الألم والامل، والحزن والفرح، والابتسامة والضحك، وانت تستمع الى موسيقى الطبيعة، بنغمات تجعل ذاكرتك تمطر فيضا من الذكرى.
ها أنت تنظر من هذه الشرفة، لقد توقفتَ في محطتك أثناء سفرك، كما كنتَ تنظر من نافذة الطائرة كلما أقلعت الى مدينة، كنتَ تعتقد أنها ستكون محطتك الأخيرة وأنها الحياة، فوق السحاب، تحلق وتحلم، ومعك أثقال العمر آمال، وثقتها بالله بين حنين وحزن، وحماس وفتور، فتكتشف انها كانت محطة مؤقتة.
تدخل تلك المدينة لتصادف رائحة الازقة والمحال العتيقة، وتتساءل أين سأكون، هل سأبقى هنا؟ ام أن الحنين سيعيدني إلى بيت أهلي، حيث رائحة قهوة امي، وثيابها وبيتنا البسيط، وتفاصيل تسافر في بحر السنين يوما يأكله يوم، لم أعد تلك الغريبة في هذه الشوارع فأصحاب الحي يعرفونني وكذلك المقهى، والأسواق، أصبح لي أصدقاء واعداء، أصدقاء ليس من جلدتنا ولا طينتنا لكنهم رائعون، فنحن نضحك كل يوم سويا، وعندما تمطر نركض تحت الشتاء، فنحن ابناء إنسانية واحدة يجمعنا الألم.
وفي حي اخر، يسوقنا الحنين، حيث نريد اختلاق الأعذار، لنعود لأفياء بيتنا، فنحن غرباء في هذه الشوارع، فمنهم من عاد الى وطنه ومنهم من انتقل للعيش لمكان اخر، سنوات تأكل سنوات، واذ بخطوط الحياة قد بدأت تُزيِّن ملامحنا، كل خط في وجوهنا يروي قصة، وكل صباح كان له قصة وكل خطوة بقيت تحت المطر لها قصة كنت انتظر أن اختلق عذرا للعودة..
فلن أبالي بملامح وجهي التي بدأت تكبر ولا قلبي الذي بدأ يشيخ، ولا بأقدامي التي تعثرت في شباك الحنين، سأصدق كل الوعود الكاذبة وأعود فرائحة الحنين متعبة، لكنها زكية ومنعشة.
لن ابكي، لن أحزن وبالفعل كنت عند الوعد الذي قطعته على نفسي، هكذا حتى قست قلوبنا فنحن تحملنا ما لا نطيق..
وفي طريق العودة تلاشى كل شيء، إلا رائحة الأماكن التي تعج بالذكريات والأحاديث وكل شي، والأهم لا اريد أحدا يعرف من أكون.
اليوم انظر مرة أخرى من شرفة منزلي، لاكتشف انني سافرت بالكلمات، بل بالذكريات والوجوه والأماكن، ولكنني خانتني الذاكرة، تلك الذاكرة التي غيرت أشياء، تربينا عليها او تفكير جمعي يفرض علينا، أنها الذاكرة التي تفضي إلى ما كنت تتمنى انت وليس الآخرين
لا أعلم كيف صحوت من بحر افكاري، الا انني أتذكر أن جرس المنزل كان يدق اذ به ابني الصغير، فانا اليوم اصبحت اما ارتشف القهوة على شرفة منزلي واسمع نغمات الوجد الصامتة، وانتظر ابني، نعم ابني الذي يوما سيكون هو أيضا على سفر الى ما هو أفضل مما قضى ومضى.