حديثة الخريشة .. شيخ المروءة والمجد
د.طلال طلب الشرفات
13-02-2023 09:50 PM
ما كنت لأغيب عن حفل إشهار كتاب الشيخ الراحل حديثة الخريشة لولا ظرف طارئ حجب عني شرف المشاركة وعافية قاسية أثقلت علّي ومنعتني من أن أشهد خلود الوصف، ونبل الذكر لشيخٍ جليل شكّل علامة فارقة بين شيوخ البادية وفرسانها، وأضاف لتاريخها فصلاً مشرقاً من فصول الشرف والمروءة والفروسية والشجاعة، وأنجب للوطن شيوخاً وقادة ورجال دولة أسهموا بتفانٍ في البناء الوطني والرفعة الإنسانية سلوكاً وأداءً ومواقفاً.
حديثة الخريشة؛ نقطة تحول في انتقال الأداء العشائري القبلي من الجهد المعيشي المرحلي إلى الأداء الوطني الذي يحفظ الكيان والكينونة، ويشكل إسناداً للقيادة في بناء الدولة، وصياغة العقد الاجتماعي الذي يجسّد معاني الاستقلال ورفض الأجنبي، ويرسخ مضامين التوحد الوطني وإنهاء حالة "الغزو" بين القبائل، وتكريس مفاهيم سلطة الدولة وسيادة القانون، جهد أسهم فيه الشيخ الخالد حديثة الخريشة في كل مراحل حياته دون استقواء أو فرض الشروط على الدولة والمجتمع؛ بل وما زال أبناؤه وأحفاده على ذات النهج حتى يومنا هذا، وصهيل خيل الآباء والأجداد لا يفارق ذاكرتهم.
لم يكن حديثة الخريشة زعيم صدفة؛ بل نهج يتبعهُ نهج في العفة والكرم، وإغاثة الملهوف، ونصرة المناضلين من أحرار الأمة الذين وجدوا في فناء الشيخ الجليل العزوة والنصرة، والقلب الدافئ الكريم. هؤلاء الأحرار القادمين من الشام وفلسطين الذين أثقل عليهم ظلم المحتل، وكان الشيخ حديثة -رحمه الله- من أبرز المساندين للثوار العرب في سوريا ضد الاستعمار الفرنسي، سواء بالامكانيات، أو الرجال، أو الدعم السياسي. وقدَّم الشيخ حديثة الكثير من الدعم للثوار السوريين الذين كانت فرنسا تطاردهم، ومن هؤلاء شكري القوتلي، وفوزي قاوقجي وغيرهم ممن حكمت عليهم فرنسا بالإعدام.
لقد كانت مضارب الخرشان وزعيمهم الشيخ حديثة الخريشة الحضن الدافئ للكثير من الدروز- أبناء جبل العرب- الذين ضايقهم الاستعمار الفرنسي، فنزحوا إلى حمى الشيخ حديثة في الأزرق، بل أن تلك الأحداث أسهمت إلى حد كبير في انخراط الشيخ الكبير في العمل السياسي والحزبي، وأضاءت فضاءات العمل الوطني، وأنتجت قرارات خالدة في رفض الهجرة الصهيونية، والحرص على بناء الدولة الأردنية وحمايتها من الاعتداءات الخارجية والالتفاف حول قيادة الملك المؤسس طيَّب الله ثراه.
كتاب الشيخ المجاهد حديثة الخريشة نزر يسير من نضالاته الكبيرة ونبله الخالد، والبيت الكبير الذي ما زال مفتوحاً لنجدة الناس، ورعاية شؤونهم منذ أكثر من قرن وحتى يومنا هذا؛ هو بيت عريق أصيل لم يبدأ بعلي، وحديثة، وعلي الثاني، ونايف، ونواف، وتركي، ولن ينتهي بجمال، ومجحم، وحاكم وأنجالهم. حدثنا آباؤنا وشيوخنا عنهم، وشهدنا شذى الرجولة والإقدام والكرم في محياهم وأفعالهم، بل سيبقى الفخر والاعتزاز والشرف يلازمنا في معرفتهم وصداقتهم وطيب المقام معهم.
حديثة الخريشة نجم في سماء الوطن لم يرحل بسجاياه، وعطر بطهر التراب والولاء لآل هاشم الأخيار بنواياه، والموقر سيبقى محجاً للوفاء والانتماء والسنابل، هناك ستبقى بلون الشمس، والكبار الكبار هم وحدهم الذين يذكرون حديثة الخريشة ويتمثلون بوطنيته وقيمه وسجاياه.
رحم الله الشيخ الجليل حديثة الخريشة وحفظ الأردن وقيادته وشعبه الأصيل.