بين المنطاد المُسقط والصاروخ التائه
د.م. أحمد محمود الحسبان
11-02-2023 09:12 PM
غالباً ما يواجه البحثُ العلمي اخطاءً بالتجارب العلمية، وقد تتكرر تلك الاخطاء مراتٍ عديدة لحين الوصول الى نتيجةٍ مرضية، أو اكتشافٍ جديد، أو نموذجٍ قابلٍ للتطوير والتحديث مستقبلاً، فهذا (أديسون) لم ينجح الا بعد الف تجربة فاشلة لاخترع المصباح الكهربائي، حيث توصل بعدها لمادة التنغستون المضيئة عند مرور التيار الكهربائي فيها، وكل ذلك يعد مقبولاً علمياً بل واساسياً ايضا، لأن أية فرضية علمية يلزمها اثبات علمي وعملي يحقق صحتها من عدمه لترى نور التطبيق. ولكن ما الخطأ الذي تقع فيه الصين مراراً في تجاربها البحثية العلمية؟ وتحديدا في مجال الفضاء والطيران، حيث تم مؤخرا اسقاط منطادا صينيا قبالة شواطئ ولاية كارولينا الامريكية بعد طيرانه لاكثر من اسبوع في اجوائها. وفي العام الماضي ٢٠٢٢ اشغل العالمَ كلَه صاروخُهم التائه (لونغ مارش ٥ ب) الذي خرج عن السيطرة ودار حول العالم اكثر من ٩٠ دورة (١٥ دورة في اليوم على مدار ٧ ايام)، والكل كان في ترقبٍ مخيف الاّ يقع فوق تجمعات سكانية في بلده، ولكنه سقط في مياه الصين الاقليمية اخيراً. ولا زالت هناك احتمالية لوجود منطاد صيني أخر - حسب البنتاغون - يجوب اجواء امريكا الجنوبية لم يتم رصده بعد. تساؤلات جدلية محقة تضع الباحثين في هذا المجال يتفكرون بعمق عما اذا كان ذلك من باب أخطاء تجارب البحث العلمي الصيني، او كان لأسباب سياسية لا اختصاص لنا بها في هذا المقال، او كليهما معاً؛ بدأت بالرصد وجلب المعلومات وانتهت فعلاً بخطأ تقني كما تدعي الجهات الرسمية الصينية، فما يهمنا فعلياً: الى اين يمكن ان يصل بنا البحث العلمي الصيني المرعب نحن سكان الارض؟ وخصوصا بعد انتشار فيروس كورونا بالخطأ من مختبرات ووهان الصينية - كما شيع وقتها - والذي اوقف جميع اشكال الحياة ردحاً من الزمن غير قليل.
في الحقيقة ان الاخطاء المحتملة في مجال البحث العلمي في الطيران والفضاء غالبا ما تكون خطيرةً ومكلفةً جدا، وقليلةً ايضا. ابحاث الفضاء وعلومه تعيش واقعاً صعباً تشح فيه الافكار والفرص، وتندر فيه امكانيات الانفاق والاعتماد، فاعتمادها ومن ثم ادخالها حيز التنفيذ لا يتم الا بعد سنوات من المصادقات والاعتمادات الدولية، لهذا السبب وجدت منظمة الطيران المدني العالمية (الايكاو ICAO)، وبدأت منذ اتفاقية شيكاغو عام ١٩٢٩ عملها كهيئة ناظمة لشؤون الطيران الدولي المشترك بوحدة الفضاء والحيز، وفيها ومنها انبثقت عدة اتفاقيات ووثائق ضخمة تنظم طيران الاجسام الطائرة في الفضاء المحيط بالارض كاملا، ابتداء من سطح البحر والبر ولغاية طبقات الجو العليا حيث تدور الاقمار الصناعية بمختلف ارتفاعاتها وتطبيقاتها. وبالرغم من وجود القليل من التشريعات التي تخص طيران المناطيد واستخداماتها العامة لتنبؤات الطقس الجوية، والابحاث العلمية، الا ان ارتفاعها محدد ومعروف بأن لا يقل عن ٦٥ الف قدم ولا يزيد عن ١٠٠ الف قدم عن سطح البحر، لذا وجب على مشغيلها ايجاد الآليات المناسبة لضمان طيرانها بين هذين المستويين، وبالرغم بانها ليست ذات مواتير نفاثة او مروحية وتصنيفها محدد ضمن المركبات الجوية بلا دفع والاخف كثافة من الهواء (nonpowered lighter than air)، اي ان كثافتها اقل من كثافة الهواء، حيث ان المواد المصنوعه منها غالبا ما تكون بحجم يجعل تحركها في مائع الهواء المحيط لا يحتاج لقوى الدفع المروحية او النفاثة، بالرغم من ذلك، الا ان الصين صرحت بخطأها التقني بنزول منطادها المُسقط لارتفاع اقل بقليل من المسموح به، حيث تم رصده على ارتفاع ٤٦ الف قدم، واعتذرت عن هذا الخطأ التقني رسميا للولايات المتحدة الامريكية.
ومن زاوية أخرى، كان المنطاد يطير فوق اراضي ليست من ضمن سيادتها - لا ارضاً، ولا فضاءً مرورا باجوائها، فلا يوجد ما يمكن الاهتمام به من قبل الصينين للبحث العلمي فوق مناطق لا تخصهم سوى التجسس افتراضا منطقيا حتميا على الاقل كبداية، وبالاخص ان هذا التجسس كان موجها ضد اراضي القوة العظمى الاولى بالعالم - امريكا، حيث الخطأ مقصودا كان ام غير مقصود سيكون ذا تبعات دبلوماسية لا يحمد عقباها. ولا يُعتقد افتراضا ان ابحاث الطقس فوق تلك الاراضي قد تهم الصين اكثر من اميركا ذاتها. وبهذا الخطأ فقد تجاوزت الصين تشريعات المرور او المكوث فوق اراضٍ لا تخصها، وخارج نطاق الحريات الخمس المنصوص عليها بتشريعات الايكاو للمرور الدولي التجاري، او للنقل للبضائع والركاب، او التزود بالوقود اضطرارياً، او البحث والانقاذ في غير اراضيها. وهذا الخطأ العلمي الزمكاني الذي وقع به علماء الصين الباحثون بغض النظر عن الغاية من بحوثهم العلمية يتعدى كونه خطأ تقنياً ادى بالمنطاد للنزول عن مستوى الطيران المخصص لمثل هذا النوع منها، ليشكل بذلك خطأ فادحاً، وغايةً غير واضحة، تضفي على شرعيتها أهداف البحث العلمي المعلن مجازاً.
ومن وجهة نظر اخرى، يأتي قرار الاسقاط قرارا ذا احقية للبلد المتضرر، رغم صعوبة الاستهداف لمثل هذه المناطيد، نتيجة لمتانة وجودة المواد المصنوعه منها، والتي عادة ما تكون مضادة للرصاص وغير قابلة للكشف الراداري، فهي ليست معدنية بحتة تعكس اشارات الرادار، بل هي خليط من الجلد والنايلون ومواد اخرى، تنكمش بسرعة للمحافظة على نسب كثافة الغازات بداخله لتبقى اقل من كثافة الهواء المحيط به. فقد استغرقت طائرة ف- ١٨ الكندية عام ١٩٩٨ اسبوعاً كاملاً من الاستهداف لاسقاط بالون مماثل انحرف عن مساره، استهلكت فيه ١٠٠٠ طلقة عيار ٢٠ ملم. ويزداد الامر تعقيدا بالتعامل مع المناطيد الحديثة التي تمتع بمزايا رصد وتتبع لصواريخ ارض جو المطلقة باتجاهها.
وبتلك المزايا التقنية المتطورة، المتمثلة بصعوبة الاستهداف، ومحدودية الكشف الراداري، اصبحت تلك المناطيد بديلاً مناسبا، وارخص تكلفة، من الاقمار الصناعية ذات الغايات التجسسية او العلمية البحثية في المدارات الارضية الدنيا (LEO). عدا عن وجود اجهزة استقبال وارسال وتصوير وجمع معلومات ذات تقنية ذكاء اصطناعي متقدم تمكنها من جلب المعلومات والصور الجوية وإرسالها فوريا من خلال شبكة مناطيد مماثلة، او اقمار صناعية اعلى ارتفاعاً واكثر تكرارا بالدوران، لتوصل معلوماتها من خلال تقنية Inter-Satellite Link :ISL الى مراكز المعلومات التي ارسلتها في البلد التي اطلقتها حيثما كانت. وعليه فهي تشكل تحدي صارخ في مجالات الحرب الاليكترونية والتجسس العسكري على حد سواء مع تحديات سباق البحث العلمي والطقس.
مقصد القول؛ ان احتمال وجود خطأ علمي تقني بتشغيل مثل هذه المناطيد والتحكم بها عن بعد لا يزال قيد البحث والتحري من قبل سلطات الطيران الامريكية ذات العلاقة، لذا تم اسقاطه بحرفية عالية من قبل صاروخ جو - جو من طائرة سلاج الجو الامريكي طراز ف - ٢٢، بحيث لا يؤثر على سلامة المواطنين الامريكيين، ولا يحدث ضررا كبيرا في المنطاد الصيني، ليتم جمع اشلاءه والتعرف على الاجهزة التي كانت عاملة فيه، وبيان طبيعة المعلومات التي ثم الحصول عليها - ان استطاعوا لذلك سبيلا، والتي من المحتمل ان تكون قد شملت المناطق الاستراتيجية والحساسة في الاراضي الامريكية المستهدفة. لذا وبعد التحقيقات يمكن التأكد فيما اذا كانت الغاية منه بحثية علمية مخطوءة، او تجسسية مقصودة، او اشعارا بقوة التكنولوجيا الصينية الحديثة، او مزيجا منها جميعها بترتيب زمني مسبق.
الصين لا تتوقف عن البحث العلمي وفي كل المجالات، وقد احتصلت على المراكز الاولى بالانتاج العلمي ولعدة سنوات مضت، ومن اهمها بمجال الفضاء انها استطاعت بوقت قياسي ابان فترة الكورونا ٢٠٢٠ الى ٢٠٢٢ من إطلاق وتشغيل منظومة الاقمار الصناعية الملاحية (بيدو Beidou) ذات الثلاثين قمرا، والمماثلة لنظام الملاحة الامريكي (GPS)، وبشكل يغطي العالم كله بعد ان كانت هوائياتها الموجههة ومداراتها المتبعة تغطي اراضي الصين الاقليمية فقط قبل وقت الكورونا، وبدون اية معاهدات او اتفاقيات مع الدول المشغلة للخدمات الملاحية الفضائية المعروفة، مثل Glonass الروسي، و Galileo الاوروبي، و GPS الامريكي. مما يدل على ان الصين تمضي في بحوثها العلمية التجريبية، وتقدمها التقني، بدون اي حساب لأي عائق تعاهدي او تشريعي حتى لو كان دولياً، لا شيء قد يحد من توقفها عن ذلك - من مبدأ أن الغاية تبرر كل الوسائل المتاحة.
خلاصة القول؛ لا اعتقد - وحسب خبرتي المتخصصة بهذا المجال خلال سنوات بحوث رسالتي الماجستير بفرنسا والدكتوراة في هنغاريا - ان ثمة خطأ علمي غير مقصود أو غير مدروس وراء وجود/ او اسقاط تلك المناطيد في اجواء الغير. فحساباتها الديناميكية الفضائية عادة ما تكون دقيقة لتضمن بقائها في مساراتها او اماكنها الثابثة - حسب قوانين نيوتن وكبلر المثبتة، واحتمالات فشلها - وخصوصا فوق اراضي ذات سيادة مغايرة - ستكون قليلة جدا لا تتعدى الواحد بالعشرة الاف. تماما كما حدث بمصير الصاروخ التائه الذي سقط في الشواطئ الاقليمية الصينية الغربية بعد عدة دورانات مرعبة حول الارض، وقد كنت قد توقعت سلامة سقوطه بعيدا عن سكان الارض مسبقاً قبل السقوط بثلاثة ايام، ونشرت ذلك في مقال سابق تحت عن عنوان (الصاروخ الصيني التائه)، وفعلا سقط بالبحر بعيدا عن اذية الناس والممتلكات.
بالمحصلة، كل المؤشرات في هذه الحادثة تدل ان قرار الاسقاط الامريكي للمنطاد الصيني قد لا يتعدى كونه اراحة الصين من عبء وتكلفة اسقاطه بعد انتهاء الغاية العلمية منه لا أكثر، رغم تصاريحها المتكررة بالاستياء من ردة الفعل هذه تارة، والاعتذار تارة اخرى. فقد يكون كل ما اريد منه قد تم ارساله بثاً حياً ومباشرا (real-time transmission) للجهة الطالبة او المرسلة، ولم يتبقى منه بعد الاسقاط سوى حطام اجهزة صماء لا يمكن معرفة تردداتها، او حتى طبيعة تعديل اشاراتها، او مديات مضخمات قدراتها البثية، ولا حتى المعلومات المستهدفة. فالاخطاء خلف خطوط العدو غالباً ما تكون قاتلة - ما لم تكن مقصودة وذات هدف مغاير. وما ينطبق على (اديسون) السلمي في بحوثه العلمية قد لا ينطبق على صواريخ الصين التائهة، او مناطيدهم الهابطة، ببطء الردع المبطن، وبصمت التنافس المكافئ.
عندما تصمت الأوهام.