الكيان اليهودي والصراع الذي تفجر
أحمد سلامة
11-02-2023 03:08 PM
الزميل، غير المنشغل سوى بمهنيته الأستاذ بسام بدارين، يحثني ويشجعني على الكتابة في الكيان اليهودي. وفي ذلك عين الرضا وإيماءة تشجع الكاتب أن يعاود الإلحاح لأن هناك أناسا مثل بسام يقرأون ويكتبون بعد.
في (الهوشة) التي اندلعت بين الرائح برجليه إلى حتف مصمم (بن غفير) والدكتور أحمد الطيبي في (الكنيست)، وبثت على نطاق واسع، ثمة استخلاصات سريعة تعود بنا إلى السؤال: هؤلاء المجانين إلى أين يأخذون أنفسهم؟! وهم جيران لنا بالإكراه لا بد أن تلحق بنا طراطيش من صراعهم الداخلي.
بن غفير لم يقل للدكتور المحترم الطيبي لازم تكون في مجلس الشعب المصري أو مجلس النواب الأردني أو المجلس التشريعي الفلسطيني، بل قال لازم تكون في سوريا.
وهذه عقدة اللاشعور اليهودي القلق والكراهية لكل من لم يعترف بهم كـ (وجود).
رغم كل الزعرنات (البن غفيرية)، إلا أن عقدة الاعتراف بالكيان لـ (يهود) هي الغاية والسبب في كل النار التي اندلعت من تحت رماد الأقدام اليهودية في هذا الكيان العنصري الذي لا مبرر لبقائه في الشرق الأوسط.
بإزاء ذلك أحاول اليوم أن أثبت لماذا لن تصمد التجربة اليهودية المفتعلة طويلا في الشرق العربي وأن اليهود بمسعاهم إلى عيش كريم قد أخطا بحقهم ديفيد بن غوريون حين قال (إن الدولة ستأتي بالسلام مع العرب، لكن السلام لن يأتي بالدولة)!
ثمة محطات إلحاحية بحاجة دوما أن نتذكرها في أي تحليل عن هذا التواجد اليهودي الموغل في الحيرة وهو يشبه مسرح اللامعقول.
الأولى: أن بتاح تيكفا (الأمل / ملبس) أول مستوطنة يهودية ذات شأن والتي أنشئت على كتف قريب من راس العين ونهر العوجا سنة ١٨٧٦ (سنة إصلاحات عبدالحميد بتعيينه مدحت باشا المحسوب على الغرب) وتحولت إلى مدينة مهمة؛ كانت بالمعنى التاريخي للتكوين قد احتوت على طبيب عام (اسمه اتسحاق)، ومقبرة، وسوق، ومصنع لصناعة العرق من تين السفوح الفلسطينية المجاورة، وكنيس. وقد كانت بذلك أول صورة للطبقة الوسطى اليهودية التي من السهل أن تندمج بدون عجرفة النووي ويعيش يهود فيها مجددين دورهم في حضارة الأندلس التي كانت حضارة تشاركية لذوي الديانات الثلاث لكن أجهز عليها جنون التعصب (فيرديناند وايزابيلا).
ولقد امتدت تجربة الطبقة الوسطى اليهودية على مهل وبتأن نتج عن مرونة أهل الشام إزاء أتباع الديانات الأخرى فهذه البلاد كانت في الأصل مسيحية بيزنطية وتحولت إلى الإسلام بسبب عروبة القبائل التي تدفقت على بلاد الشام منذ الألف الثالث قبل الميلاد (انهيار سد مأرب). ولم ينظر لا المسيحيين ولا المسلمين في بلاد الشام لليهود سوى (بعين العطف الإنساني) وليس بعين بلفور الصهيونية الماكرة.
الثانية: حزام الاستيطان المنتج من يهود أوروبا ابتداء، قد احتاج إلى مؤسسة تنظيمية ترتب العلاقة بين صاحب العمل (مونتيفيوري مثلا) وجموع السباكين والعربنجية وحثالة البروليتاريا والزراع وصغار الكسبة. وما أن أصدرت سلطات الانتداب البريطاني المتآمر قرار إنشاء الوكالة اليهودية سنة ١٩٢٢، لتنظيم شؤون اليهود ولتكون مسؤولة عنه أيضا، حتى رتب اليهود أنفسهم على مؤسستين: الهيستدروت (اتحاد العمال) ، و الكرين كايمين / هاكرين هاكيميت (الصندوق القومي اليهودي)، الذي منع التملك الفردي للأرض في فلسطين واقتصر الأمر على التأجير وأن يكون المالك (الصندوق القومي اليهودي).
ثم لاحقا أضيفت أخرى لبعث فكرة وإنشاء كيان فكان (تسهال / جيش الدفاع اليهودي). بتأسيس هذه الموسسات الثلاث بتوازن انبثق مجتمع كله حرية وطموح لليهود ومليء بالحقد والرعب والكراهية لأهل الأرض.
ولو أن يهود صنعوا أو عمموا فكرة التساوي ونشروا العدل على العرب وعليهم سواء بسواء لما وصلت التجربة اليهودية إلى مآلاتها الراهنة، والتي تنذر في أية لحظة بحرب دامية طاحنة، بين فريق لم تنتجه تجربة الديموقراطية بل أنجبته تجربة الحقد والكراهية (نتنياهو) وتجربة أخرى هبت فجاة حين أدرك أصحابها أن كل شيء قد التهم وسرق (مظاهرات السبتيين).
الثالثة: أن مجتمع الآباء المؤسسين أقاموا كيانهم على أشلاء التجربة الزراعية الفلسطينية البسيطة (الطالعة من معاناة العلاقة المزدوجة مع الأتراك لأربعمئية سنة، مرة هم أخوة في الدين وفي كل المرات هم أتراك ليس إلا، ومع ذلك أفادت التجربة العرب بأن لبثوا موحدين تحت راية العثمنة)
إن الآباء من اليهود الذين وفدوا من أوديسا وفرنسا وأمريكا ولاحقا من إيطاليا وألمانيا بعد ما تعرضوا له من جنون هتلري وكأنه انتقل إلى بعضهم، كانوا بحق طبقة وسطى تسعى إلى العيش وجففوا مستنقعات الحولة وأضاؤوا كل مستوطناتهم وعملوا سوقا موازية مع العرب في يافا وفي حيفا وبيسان وصفد والقدس وطبريا، وكذلك صنعوا (الغيتو الاقتصادي الخاص بمستوطناتهم).
هؤلاء الآباء ورثهم رابين وبيريز ويوسي ساريد ويوسي بيلين. لكن ما نراه الآن لا علاقة له بأولئك النفر الذين كانوا يرومون العيش الهانئ والمسالم خاصة بعد مذبحة النازي لهم.
اليهود الجدد الممثلين بنتنياهو وشلته ولا أقول عصابته لأنه فقد القدرة على الحركة ضمن عصابة، وهو الآن يقف على مفترق طرق: إما السجن! وإما أن يشقلب هذا المجتمع عاليه أسفله وينقض عليه متخيلا أن المتظاهرين ضده في تل أبيب هم من العرب، وعليه واجب إزالتهم أو قمعهم.
إن اليهودية في فلسطين قد بلغت ذروة انحطاط تجربتها ولا يفيدها فذلكة يهودية الإدارة الأمريكية ولا هدوء بيل بيرنز الذي داوم عدة أيام مع ( مساطيل الجنون الجديد محاولا إنقاذهم من أنفسهم) وسيستمر نتنياهو (الفردي المتغطرس غير المؤمن بأي شيء سوى بقدراته هو) الضغط على الكيان اليهودي كله حتى يحظى بشرف البراءة من السجن، وفي ذلك فرصة تجنيب المجتمع الانفجار العظيم المرتقب.
نتنياهو لن يخضع للمحكمة ولو كلفه ذلك سقوط الدولة كلها وانهيار المعبد على رؤوس الجميع، ولو أن حكيما لديهم ينصح باجراء تسوية ما بإعادة تشكيل الحكومة على أسس جديدة ومنح صك براءة له (نتنياهو)، ربما أن الثمن يكون أهون.
الملاحظة الأخيرة: في أحد ايام لندن الشتوية من عام ١٩٩٥م، ذهبنا ثلاثة أردنيين إلى فندق الهيلتون لنصطحب رئيس حزب الليكود الجديد، بنيامين نتنياهو، لإجراء أول مقابلة لندنية مع جلالة المغفور له باذن الله سيدنا الملك الحسين رحمه الله في دارة مليكنا بـ (آسكوت) خارج لندن وبحضور سمو الأمير الحسن بن طلال.
كان الثلاثة سمير الرفاعي، رئيس تشريفات ولي العهد آنذاك ومدير مكتبه الخاص، واللواء محمد خير الشياب من سلاح الجو الملكي وحامل ملف حزب الليكود، وكاتب هذه الشهادة حامل ملف الإعلام.
وبتداخل مع الأخوين في المهمة حد التطابق التفصيلي، وأرجو أن تقرأ هذه الملاحظة من القارئ على أنها ليست استعراض متقاعد لدور قد مضى وانقضى، فالأحرار لا يتقاعدون، ونحن أحرار في وطننا.
لكن هذه شهادتي في نتنياهو عن قرب ليكتمل التحليل والنظرة تجاه مع من نتعامل ومن هو الذي يحكم اليهود، الآن.
وصلنا إلى لوبي الهيلتون من ذلك اليوم وكان يحاور بالعبرية زوجته (سارة) كانت ذاهبة للتبضع. وأول ما لفت نظري في ذلك الحوار كيف أنه حين مد لها يده حاملة الـ(فيزا) لتتسوق كان في منتهى البطؤ والتردد، والبطؤ
كانت أول صورة لبخله قد أدركتها من طريقة تعامله مع زوجته.
ثم انتقلنا به إلى حيث نشاء، لم يكن بعد قد تورمت (الأنا) لديه ويعتبر نفسه ملك كيان اليهود الأبدي، لكنك تستطيع أن تفهم من طبقة صوته عجرفة قادمة لا محالة!
في السيارة كان يجلس مجاورا ل نتنياهو بصمت لا تجد له تفسيرا معلمه وملهمه (دوري غولد) أحد أخطر الملهمين لنتنياهو في تشدده التوراتي وهو بروفيسور متمكن وشغل عدة مواقع دبلوماسية وأكاديمية.
دوري ونتنياهو وسمير الرفاعي وأنا وعلى طول الطريق بين لندن وآسكوت لم نجد أي قاسم مشترك لنتحدث فيه بمودة، واكتفى (الضيف) بالاسفسار عن بعض أمور بروتوكولية من الأخ سمير الرفاعي. وليس سرا ولا نكشف جديدا أن أول المتنبئين بقبح الدور الذي انتهى بنتنياهو إلى التحالف مع (زعران وبلطجية الاستيطان) كان هو الحسين رحمه الله وقد عبر عن تبرمه منه في رسالة علنية كتبها جلالته له واتهمه بأنه يدمر مشروع السلام بين العرب واليهود وأذيعت على الهواء مباشرة.
كان ذاك الهاشمي فيه حدس وغرائز طاهرة يعرف الرجال ويزنهم بميزان من ذهب وواقعيته السياسية المحنك هي التي دفعته للتواصل مع نتنياهو لانه كان يرى الخطير القادم يرحمه الله.
عند أول وصوله انشغل في السؤال عن حجم أرض آسكوت ومتى اشتراها سيدنا وكم سعر الفدان وكان تعليق سيدنا الفوري رحمه الله لحظة مغادرة نتنياهو أن هذا مدير ضريبة ولا بدو بصير رئيس وزراء! (لاحظ اهتماماته)!
تمت المحادثات وقبل أن يغادر على باب السيارة طلب سكرتيره الصحفي مني التماس نتنياهو تأجيل بث خبر اللقاء لينفرد هو به لحظة وصوله مطار بن غوريون.
كان رحمه الله سيدنا ومعه سيدي حسن يقفان على باب الدارة وكنت سمير الرفاعي وأنا نتحاور مع (تشاي بازاك) على باب السيارة. قلت له هذا لن يكون، أنا سأرسل بيانا عن اللقاء الآن لوكالة الأنباء الأردنية، وتوسّل وضغط وتدخل نتنياهو. ولم أعد عن قراري في ذلك، وقلت له علينا مسؤولية أمام أمتنا وعلينا واجب إعلامها. وكان هو يريد أن يحقق أكبر مكسب انتخابي، لأن جلالة سيدنا رحمه الله كان يتمتع بأثر فاعل في صندوق الانتخابات اليهودية. وشخصية نتنياهو لا تقوم إلا على الانتهازية واصطياد الفرص.
عدت، وسألني سيدنا بكل دفئه الأبوي الحنون (شو بدو منك!). أخبرته رحمه الله ، بما وقع، فقال مبتسما تعال أعطيك هالخبر حتى ما نفرحه كثير انتخابيا باللقاء، أضف إلى خبرك (أنني سألتقي غدا ديفيد ليفي في باريس). وكان ديفيد ليفي أقوى المنافسين لنتنياهو، وهو يهودي مغربي من صميم الطبقة العاملة لكن ماكينة الدعاية والإعلام التي اتقنها نتنياهو في نيويورك وبراغماتيته وتورم الأنا فيه واصطفاف (الأشكينازيم من خلفه ضد يهودي مغربي) كل ذلك جعل ديفيد ليفي ينتهي به المقام إلى حيث لا شيء.
نتنياهو حين تحدق في عينيه ترى حقدا مرضيا على كل غني يهوديا كان أم روسي ويكره التشارك في أي شيء، ولا يستمع إليك وأنت تتحدث إليه. نتنياهو صورة طبق الأصل عن الفردية الأمريكية المجبولة بالانتهازية المطلقة. وبذلك لا يضيره التعامل مع رءيس كنيسيت (مثلي) وبالمقابل يلاعب أحلام بن غفير ليلا ويصرف وعودا لبلينكين كما يشتهي ويصرف تهديدات لإيران على أنه المنقذ وهو يعلم أن كيان اليهود نووي تحت الفراش وإيران نووية من تحت الوسادة. وما بينهما صراع أدوار وليس نزاعا عقائديا.
خلاصة: ما وددت قوله إن من يعرف نتنياهو عن قرب يدرك أنه لن يقدم على أي شيء يلحق بشخصه الضرر وأنه نهاز للفرص وكلنا يتذكر أن معركة التحريض القصوى والتي أودت بمقتل اسحق رابين من قادها ومن أججها ومن حمل رايتها بلؤم وبحقد وانتهازية كان هو نتنياهو وقد حظي بالجائزة. واليوم فإني أغامر بالقول (وبشر القاتل بالقتل). إن رابين كان رجل دولة نبيل خاض كل حروبهم وانتصر لكن حربه الأقسى كانت على النفس بأن حارب معركة السلام فانتصر لنفسه وللحقيقة.
مجتمع اليهود يقف الآن على مفترق إما تسوية مع نتنياهو تنقذه من حبل السجن، وإما حرب أهلية لا يقتصر شررها على اليهود وحسب.
إن كانت أمريكا صادقة بإنقاذ الكيان من نفسه وإن لم تكن تخطط لزواله لأن مهمته شارفت على الانتهاء، فعليها واجب أن تمهد لحل الحكومة. وذلك أمر سهل وإعادة إنتاجها بإدخال القوى التقدمية ولا ضير أن يتراسها نتنياهو أو يتنازل بعد أن يحظى بتعهد عدم السجن وإلا فإن القادم صعب على الجميع.