سلامة يكتب: شرفة ونس تطل على البادية
أحمد سلامة
08-02-2023 08:42 PM
"الرسائل فن أهمله المعاصرون"، وكنت تلقيت رسالة عميقة الدفء والكرم، ومدججة بالمعاني الساحرة، من الأخ والصديق صاحب الفكر (المحافظ) بتعبيرات أهل (الأمركة)، طلال الشرفات. ولقد نُشرت هذه الرسالة على صورة مقالة في (صحيفة عمّون).
ولقد دفاءت هذه الرسالة قلبي، وأنعشت روحي ليس لما تضمنته من أخوة مكينة وحسب، بل لأنها حافظت على ود واحترام رغم التفاوت في الفهم لانحياز كلينا لمعنى يتوازى مع آخر لمضمون الهوية ولا أقول يتنافر.
وطلال مفكر متدفق مليء بالوطنية الأردنية ومدجج بكثير من اللغة وكبير شأن للمواقف الواضحة، وكنت سأكتفي بامتناني عبر واسطة اتصال بيننا، لكن الأدب والاحترام قد أوجبا علي أن أرد مستعينا بذات الوسيلة وذات الرصيف، ولهذا أباشر الرد على النحو التالي:
لعل اسم طلال يهيج روحي بكثير من الفرح، فحفيدي الثالث من صلب فراس ولدي الذي أمدني بالحياة بعد أمر الله سبحانه في محنة وهبه لي عضوا عزيزا (الكلى) قبل ١٤ عاما تخيّر لابنه اسم (طلال)، وكان ميلاده فرحة لا تضاهيها فرحة.
وأما الفرحة الثانية فقد كانت صداقتي لطلال سلمان أحد أساتذة مهنة الصحافة ذات الترفع اليساري. ولقد كانت الفرحة الثالثة هي هذا الود الجارف والأخوة الدافقة من طلال الشرفات في مقالته لي في عمون.
ومن المفيد البدء بالقول إن هذا الاسم النبيل هو أول هدايا الهاشمية اللغوية لأهل برّ الشام في الأردن وفلسطين. إذ لم يعرف هذا الاسم بهذه الصيغة ( طَلال: بفتح الطاء وحذف التشديد عن لامه) إلا عبر أكرومة الملك الموسس على اللغة في وسم بكره وولي عهده أبو الحسين (طلال بن عبدالله) رحمهم الله أجمعين.
قد يكون قد خرج عن الميزان الصرفي حين نحت هذا الاسم بفتح الطاء بدل كسرها، وكان عبد الله المؤسس المقدام المفكر الشهيد جسورا على العربية لتبحره فيها ولا يهاب التجديد شأنه ذلك في كل مناحي الحياة. وهذه التقدمية والجسارة هي التي صنعت وطنا وخلفت سلالة على هيئة روحه الباسلة.
كان المؤسس عبدالله ذا ذوق فاحص للأشياء ويهوى اختيار الأماكن التي تُلهب موهبته الشعرية ولقد تخيّر مكانا في حوض (العويس) بقلب الغابة الدهرية دبين وفي تقابل ملاصق الآن بين بيت المرحوم وهدان عويس أول الساكنين في الغابة وشجرة دهرية من اللزاب الحلبي وارفة هانئة عصية عن اليبس استظل بها المؤسس وصحبه مرارا لقول الشعر ولقد كرّمها الملك عبد الله بأن وسمها باسم يشبهها حين أطلق عليها اسم (الهدأة). وظل يأوي إليها ليقرض الشعر ويرتّب الفكر بصحبة عبد المنعم الرفاعي ونديم الملاح وفؤاد الدين الخطيب وتيسير ظبيان.
وذات يوم بدأت المناجاة الشعرية بين الملك الشاعر القدير وعبد المنعم الرفاعي في قصيدة عن الليل. وكان المرحوم الملك عبدالله يتعرض بعض شعره على وزن البحر الخفيف إلى ما يعرف عند أهل العروض بـ (الزحاف). وهي هفوة مغفورة في علم العروض بل تجمّل أحيانا الموسيقى الشعرية. لكن أهل اللغة يعتبرونها خطأ!
وحين رد على الرفاعي ببيت على ذات الوزن وذات التفعيلة زحف معه الوزن! فتنحنح الشيخ نديم الملاح بطريقة مليئة بخلق التابع للهاشمي مسجلا اعتراضه على (زحاف البحر الخفيف). الملك النابه عاد ليصنع بيتا آخر فورا، وتعمد به الزحاف قاصدا، فعلت نحنحة ذلك اللغوي التليد (الشيخ نديم) على هذا التكرار. لحظتها، سأل الهاشمي، بكل رقة ما عرف عن آل البيت من كياسة، ما بك يا شيخنا؟! فرد الشيخ نديم: لقد لحنت يا مولاي! وعاد الملك المؤسس يسأل، لحنت بماذا يا نديم!؟ أجاب: لحنت في وزن البحر الخفيف يا مولاي.
تقول الرواية كان متكئا رحمه الله على مركاه، فاستند بوقار وقال للشيخ نديم: يا شيخ نديم، هذه هديتنا اللغة العربية، وهبناها لكم فاضبطوا صوابكم على أخطائنا إن وجدت! فإن أخطاءنا هي الصواب في هديتنا لكم.
وكان طلال أول الصواب وأول الجواب. لهذا فإن طلالا الذي لم يسبق أن تم التعرف إليه هو هدية لنا. وما طلال الشرفات إلا استجابة أردنية باسمه وموقفه وهدية فاتنة من البادية الأردنية إلى عبدالله الثاني بن الحسين، موقفا واسما تم إنفاذ رغبة المؤسس أن يكون لـ (طلال) دوما وقعا بهيجا.
تعرفت إلى طلال الشرفات بصلة قرابة الحروف لأن الزمن الأردني الذي جئنا فيه كان قدرنا أن يكون متواليا وفرقتنا أعوام لم تتح لنا اللقيا إلا عبر الحروف في عمون.
لقد أقبلت على ما يكتبه بود ومحبة وإعجاب كان مرات يبلغ بي الدهشة لسحر لغته وتركيباته الإبداعية وكان هذا عندي الأبرز في موهبة هذا الكاتب القادم من كل الصحراء الأردنية ليلتحق في معركة التعريب عبر بوابة مؤتة.
حتى كنت ذات ليلة في عشاء وكانت مراكز الإملاء للرجال على المواقع قد انتهت من تشكيلة مجلس الأعيان ولأمر لم أعرفه فقد أُخرج (طلال الشرفات) من التشكيلة الجديدة وهذا أمر عادي في حياة الأردن، التتابع والاستبدال وأحيانا من غير سبب سوى أن قوى تملك سطوة الإملاء فتستبدل رجالا برجال ونساء بنساء.
في تلك الليلة سأل أحد الدهاة: طيب، هذا المحسوب عالنظام ليش طلعوه وهو يخوض كل معارك البلد بقلمه!؟ وجاء رد أحدهم بالقول: يا خوي طلال ولاؤه فاقع ومزعج لأنه واضح ومتشدد. كان من الواجب أن يمشي.
ثم راح الحوار إلى كوتات المجلس الجديد، والحق أنني فوجئت من كوتا أحد اليساريين الذين غيروا هويتهم إلى صحافي النظام ثم منظر النظام ثم ضابط ايقاع اعلام النظام كله وبأن عددهم ثمانية. والثمانية متشددون ما زالوا في يساريتهم. فقلت طيب شو بعيب دولتنا يكون الأخ طلال متشدد مع النظام مقابل ثمانية متشددين في المجلس لليسار! فبلدنا بلد التوازنات المعقولة؟!
بعد يومين، عرجت على هذا الموضوع وقلت إن أحد (الكتبة) وقصدت به طلال قد تم إبعاده لأنه متشدد في الولاء وانتقدت ذلك.
والغريب في أمر القصة أن أحد الذين أسهموا في إبعاد طلال انتقد مقالتي في ذات اليوم بقوله إنني أسات لطلال حين وصفته بأحد (الكتبة).
اتصلت به في اليوم التالي قائلا أيها الأستاذ المحترم نحن أتباع المدرسة الهاشمية لا نخطئ في أوصاف بعضنا ولا أوصافكم لو تمهلت قليلا ودققت حين وصفت طلال بأحد الكتبة هذه صفة ما بتطلع لكل جماعتك هذه وصفة لنا وتقدير عال لطلال عندي. فأهم حلقة كتاب في تاريخنا المشرف وليس تاريخكم أنتم اسمهم (كتبة الوحي). وكتبة النظام الهاشمي مثلهم الأعلى كتبة الوحي.
طلال الشرفات مع التقدير لكل المناصب فان موهبته ووطنيته وموقفه فوق كل المناصب. لقد تشرفت بكاتب جليل ومتشدد في الولاء للنظام وهذا وسم بدفء القلوب. وإن كنا مقتنعين حقا بحرية الاعتقاد وليس بجماعة الاعتقاد، فقد وجب علينا أن نقر أن طلال الشرفات ركنا من أركان فكرنا وتفكيرنا الوطني، له روحه الخاصة به وله قاموسه الخاص به وله جسارته التي تحترم وتقدر.وليس هناك من شك أن طلال الشرفات سيعاني في مسيرته كما عانى جيلنا كله الذي تحمل مسؤولية الاصطفاف من أمام الدولة كعقيدة ومعتقد (ستون ليلة تحت حاكم ظالم خير من ليلة من غير حاكم) فما بالك إن كان الحاكم عادلا!؟
نحن دعاة الفكر الهاشمي والرسالة الهاشمية والدولة الهاشمية لا ندعي أن المسيرة تخلو من الأخطاء، بل إن الكثير من الأخطاء تجاوزت الحد لتصير خطايا. ودوما من يدفع
الثمن برضا هم رجال الحكم، ورجال الدولة وأهل الكتابة والصحافة ممن في صف الحكم.
لكن مع كل وجع وآخرها وجع إقصاء طلال حتى يرضى خصوم الدولة ولم يكن أولها طرد فواد الدين الخطيب ولا سجن صلاح أبو زيد ولا إبعاد الكثيرين من أهل المنطق والوطنية والولاء لأسباب غامضة، فإن نظرية فلاح المدادحة لن تتغير يرحمه الله (في زمن الرخاء للانتهازيين الصولة والجولة وفي زمن الشدة وضيق الحال وصعوبة الظرف فإن نفرا منذورون لهذه المهمة). لن يتغير الحال، فهذه هي الحياة.
أدعو الله أن يكون درب طلال وجيله أسهل قليلا من دربنا، لكني واثق أن طلال الشرفات وميض بدوي ساحر نقي يخترق العتمة وسيبرق ضوءا رغم كل ازدهار قوى (التحويل الأجنبي، وحواة جماعة الاعتقاد، وافتراءات التعريفات الجديدة بما يسمى المؤثرين في الطبخ والرياضة والسياسة وسيداو وحماة الحرية الجنسية المطلقة واقتصاد السوق والخصخصة).
المعركة لم تبدأ بعد بضراوة، دعونا ننتظر لحين أن يتبوأ أحدهم معمعان الصدارة في ما يسمونه (الولاية العامة) ساعة إذ سنحتاج كل طاقات طلال الشرفات وربعه.
ودوما البادية لها مفاجاتها من خيل خالد بن الوليد الذي أنجد الشام عبرها من العراق فحسم عروبة بلاد الشام في اليرموك حتى قلم طلال الشرفات الذي يقض مضاجع أهل التحويل وزوار السفارات وحكايا المجتمع المدني.
سيبقى هناك ليل في عمان نتسامر فيه ونباهي بقلمك يا طلال. لك الأخوة للأبد وكل المحبة لنصلك وأصلك.