نتوق للمطر ورائحة التراب الأولى، نتوق لفوح (الطيون) الممطور على غفلة من غيم جريء يجيش، ونتلهف لصعقة برق في أفق المغيب. نتشوق لمطر تنسج خيوطه بهجتنا ومسراتنا، فنصحو على ضربات أصابعه الرقيقة فوق شبابيكنا، وعلى زغردة المزاريب المنداحة من أسطح البيوت، كم نحن لهزيم الرعد يوقظ هذا السبات في الأرض وفينا!!.
تبدلت اشياؤنا وتغيرت طقوسنا، ولم تصب الأرض وحدها بثقب بالأوزون وبانحباس حراري، بل نحن قد انحبست مشاعرنا وتبلدت، ولم نعد نحلم بالمطر، فقديما كانت الدنيا توسم (أي ترتوي بالمطر) في أيلول صاحب الذيل المبلول، وها نحن قاب أيام من كانون ولم تتبلل سجادة ترابنا بعد.
جداتنا الطيبات الطاعنات بالمحبة العامرات بالبركة، كنَّ إذا ما تأخر المطر، وقاربت الدنيا إلى المحل والقحط، يعمدن إلى قلب ثيابهن، إظهاراً للحاجة والتضرع، ويقعدن على عتبات البيوت، بسكينة واستكانة، يلهجن بالتسبيح والاستغفار، ثم يدرن الرحى الفارغة (الرحى حجران دائريان من الصوان، كانت تستخدم لطحن الحبوب)، وكأنهن يجرشن ويطحن الهواء بدل القمح!!، في إشارة صامتة مؤثرة إلى أننا يا ربي، قد جف الضرع، ومات الزرع، فجد علينا بالغيث المغيث!!!.
وكان هناك طقس شائع في قرانا القديمة، حال تأخر الموسم والمطر، فتتجمع بعض الصبايا، اللواتي لم يبلغن حد الزواج، ويحملن خشبة على شكل فزاعة، يلبسنها ثياباً سوداء مهترئة بالية، ويشكلنها بهيئة امرأة تسمى (أم الغيث)!!، الصبايا المفعمات بالبهجة وحب المطر والقمح كن ينطلقن في الطرقات، ويرددن أغنية مليئة بالشجن المجروح، والرجاء المستكين، والابتهال البسيط: (يا أم الغيث يا ربي!!/ تسقي زرعنا الغربي/ يا أم الغيث يا دايم / تروي زرعنا النايم)!!.
أهل البيوت كان يستقبلون الصبايا ويرشقوهن بالماء، في إشارة متفائلة إلى أن المطر سينهمر قريباً، ثم يتابعن الغناء السريع:(راحت أم الغيث تجيب الزلازل/ وماجت غير الزرع طول السناسل/ راحت أم الغيث تجيب الرياح/ ما جت غير الزرع طول الرماح/ راحت أم الغيث تجيب الرعود/ ما جت غير الزرع طول القِعُود)، أي أن المطر تأخر كثيراً، فلو اعتمدنا على أم الغيث!!، فسوف ينبت زرعنا، ويصبح بطول الجدران الحجرية(السناسل)، و(الست) أم الغيث لم تأت بعد!، وأن أم الغيث هذه، راحت تجلب لنا الرعود، فلم ترجع إلا والزرع بطول الجمل الصغير(القِعُود)!، فنحن لا نرجوها أبداً، بل نرجو الدايم الذي لا ينسى عبيده!!.
في حمى حياتنا الاستهلاكية الشرهة العيماء، نسينا حالنا ونسينا المطر، ولم تعد تلك الحسرة على تأخره تنتابنا أبداً، ولا أريد أن نقلب ثيابنا إظهارا للتواضع، بل أن ننزع عنا بعض قشورنا وكبرياءنا الزائف وشموخنا الوهمي، فيا ربنا ندري أننا خربنا الأرض حتى ضجت بالزلازل والبراكين والأعاصير، وأننا ثقبنا الأوزون وزدنا الغازات التي رفعت حرارتها وعصبيتها، لكنك ربنا الرحيم ومولانا الكريم فاسقنا بمطرك القريب!!.
ramzi972@hotmail.com