هل الأولوية لمدينة جديدة أم لتطوير إقليم الوسط؟
المهندس عامر البشير
29-01-2023 05:32 PM
ابتداءً أنا لستُ مع أو ضدّ مشروعِ المدينة الجديدة، الذي أعتقد جازماً أنه سيخدمُ الدولةَ الأردنية بالمئوية الثالثة، بالرغم أننا ما زلنا في بدايات المئويةِ الثانية، كما أنها ليست جردةُ حساب توثّق إنجازات الحكومات المتعاقبة أو إخفاقاتها، ولا أُنكر أننا بأمَسّ الحاجة لمشروعٍ تنمويّ يستشرفُ مستقبلَ الأردن يعالجُ تحدّياتهِ الاقتصادية والمعيشية، وأتفهّمُ حالةَ اليأسِ التي مرّت بها آخر ثلاث حكومات أردنية بما فيها الحكومة الحالية؛ بسببِ تباطؤ العجلةِ الاقتصادية وتراجع نسبِ النّمو، التي أبقَت هذا المشروع على أجندتها، وهي جادّة في ذلك مُنذ العام 2018، فالإحباطُ الحكوميّ يُوازيه إحباطٌ شعبي سببهُ انسدادُ آفاق المستقبل؛ بسببِ فقدان الأملِ والفقر والبطالة وتآكل الرّواتب، وارتفاع الأسعار، ومن منطلقِ الإحساس بالمسؤوليةِ التي نشترك بها مع الحكومة، يُحتّم علينا أن نتوقّفَ قليلاً قبلَ الشّروع في تنفيذِ الفِكرة والعودة خطوة للوراء، وبحثُ أفضل الخَيارات، ليس القصدُ بحث إن كُنّا بحاجةٍ لمشروعٍ تنمويّ اقتصادي يُجمعُ عليه الأردنيّون، بَل لأنّ هذا المشروع بالتأكيد سيستنزِفُ المواردَ الوطنية لبضعةِ عقود وعلى حسابِ تنميةِ إقليم الوسط وتنميةِ المحافظات ولأننا لسنا دولةً نفطيّة، ولن نتحمّلَ أن ننتظرَ طويلاً لجنيِ النتائج، فعوائد المشروع سوف تتأخر كثيراً، وبالكاد الدولةُ قادرة على صيانة بُنى تحتية أو إنشاء توسعات لها، وتقترضُ لتغطية نفقاتها الجارية وسداد فوائد الديون، وشبح الكساد يهدّد العالم والمنطقة ويلوحُ بالأفق، أرى أنّ تعديلَ مسار الفكرة ضرورةٌ مهمّة، إمّا باختصارِ الفكرةِ لتوفير مُنتجٍ تنظيميّ جديد يفتقدهُ إقليم الوسط نتيجةَ تفتيت ملكيات الأراضي، مثل المدنُ الترفيهية ومدينةٌ للمعارض ومدينةٌ للإعلام ومدينةٌ للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وإلى ضرورة توفير مُنتجٍ سكنيّ يتيحُ التملّكَ بأسعارٍ معقولةٍ تتناسَبُ مع مُستويات الدخل وبرامج التمويل البنكية المخصّصة للسكن، والتي أصبحت خارجَ شروط المنح؛ بسببِ ارتفاعِ أسعارِ الشّقق والأراضي وتدنّي رواتب الموظّفين.
أقدّمُ مُقترحاً بديلاً للفكرة، وهو أن تُوسِّعَ الحكومةُ آفاقها لحلولٍ أكثر رحابة، وأن تتبنّى مشروعاً لتطويرِ إقليمِ الوسط؛ لأنّه المشروعُ الأكثر حاجةً وواقعيةً واستدامةً، والعمل على إنجاز مخطّطٍ شموليّ تنمويّ لإقليم الوسط، يشملُ مدنَ عمّان والزرقاء والسلط وناعور ومادبا والموقر وسحاب، يمكنُ البناء على الواقعِ الاجتماعي والحضري الحاليّ فيه، والاستفادة من نقاطِ القوّةِ لهذهِ المجتمعات وميزتها النسبية وتعزيز تكاملها؛ بهدفِ تحقيق التنمية ومُعالجة تحدّياتها الحضرية، واستكمالِ مشاريع البُنى التحتِيّة، وتبنّي مشاريع النقلِ الحضري بجدّية من خلالِ مُخططٍ شموليّ لخطوطِ النقل الحضريّ والسّككي وبين مراكز المدن، وإنشاء خَطَّين سِكَكِيّين (مونوريل) رئِيسَين مُتعامِدَين، واحدٌ مِن شمالِ مدينةِ عمّان (منطقة شفا بدران والجبيهة سلةُ الإسكان المستقبلية لمدينة عمّان) حتى مطار الملكة علياء بطول 46 كيلومتر، وخطٌّ سِكَكِيّ آخرٌ مِن الزرقاء الجديدة شرقاً (منطقة توسّع مدينة الزرقاء) وُصولاً لشمال مدينة السّلط غرباً مروراً بمنطقة صويلح بطول 34 كيلو متر) الذّي يوفّرُ كثافةَ رُكّابٍ تحقّقُ اقتصادياتِ تشغيل وجدوى اقتصادية، ويعمَلُ على حَلّ مشاكل الازدحامات المرورية جوهَريّاً والاختناقات الحاصلة على مداخِلِها الأربعة ساعات الذروة، وأنّ كلفةَ إنشاءِ هذا المشروع يمكِنُ توفيرُها مِن عوائد التنظيم عندَ زيادةِ أعداد الطوابِقِ على طول مسارِ هذيَن الخطّين (تكثيفٌ عِمراني)، والذي سيعتَبرُ إختراقاً وفرصةً استثماريّةً لقطاعِ التطويرِ العقاري، على التوازي مَع ما يُوفّره هذا المشروع السكَكِي العملاق للقطاع الخاصّ من فرصٍ استثمارية لتشغيل خطوطٍ متعامدةٍ عليه ومُغذيةٍ له، ولمشاريع النقلِ الجماعيّ والباص السريع لمدنِ ناعور ومرج الحمام ومادبا ومنطقة أُحد وفي كلّ من الموقر وسحاب والسلط، والذي سيُمكّن البناء على المنتج السياحي والموروث التراثي والثقافي لمدن مادبا والسلط وعمّان وجوارها، وسيوفّر شرياناً للربط بين مناطق الإنتاج الصناعية لمدن الموقر وسحاب، والذي سيمكّنُ الكثيرَ من الباحثين عن فرص عمل لتحسين واقعهم المعيشي والمقيمين في الزرقاء وشرق عمّان، وتعزيز منظومة الأمن الاجتماعي، وتعظيم الميّزة النسبية لخصوصية مجتمعاتها المحلية.
الحكوماتُ قد تخطِئ وقد تُصيب، فهِيَ ليسَت مُنزّلةً أو مُنزّهة، وإنّ ما نراهُ مِن مديونيّةٍ سببُهُ الأوّل والأخير حكوماتٌ متعاقبة سياساتها تسبّبَت بأخطاءٍ كانت نتائجها مُركّبةً ومُعقّدة، وإنّ التوسّعَ الأُفقي في إنشاءِ بُنىً تحتيّة وفوقيّة خارجَ المغلّفات الحضرية وخارج مناطق التنظيم بمعزِلٍ عَن الكثافةِ السكّانية، استناداً للضّغوطِ الشعبيّةِ ومطالباتٍ لإنشاءِ مرافق تعليمية وصحية؛ بهدف الحصول على فُرص عملٍ لأبنائها فقط لا أكثر، ولم تكنْ الخدماتُ قضِيّةً مُلِحّةً لَو وفّرَت الحكوماُت خطوط نقلٍ سهلة مِن أماكن سكنِهم إلى مراكز تقدّم خدمات نوعية داخل المدن، ولأنّ التخطيطَ بِالقطعة وليسَ ضِمنَ خططٍ شموليّة، وتتلخّص الحاجةُ الحقيقية للتوسّعِ رأسياً بمستوى هذه الخدمات، وليس أفقياً؛ للارتقاءِ في نوعيّتها بقطاعاتِ التعليم والصحة وغيرها، بدلاً مِن التوسّع جغرافياً في إنشاءِ مرافق يفتقِدُ كثيرٌ منها لأسس الاستدامةِ واقتصادياتِ التشغيل؛ بسببِ نقص البرامج والأجهزة والكوادر المؤهّلة، وأُعيدُ للذاكرة من أخطاءِ الحكومات مشروعُ فِلس الرّيف للكهرباء الذي قارَبَ على عامِه الـ 50، وبِالرّجوع لما تمّ صرفُهُ على هذا المشروع خارج مناطقِ التنظيم والمغلّفات الحضرية، ومُقارنة أعداد المستفيدين منه مع الذي صُرِف على مشاريع النقل الحضري داخل مدينةِ عمّان والمدن الكبرى، أو مع النقص في إنشاء شبكات تصريفٍ صحّي لأحياءٍ ما زالت داخلَ مدينة عمّان ذات كثافة سكانيةٍ عاليةٍ ما زالت تفتقرُ للمُتطلّبات البيئية، يمثّلُ نموذجاً لاستنزافِ الموارد في غيرِ محلّه (الأولوية لمناطق التكثيف العمراني)، وإنّ أيَّ قرارٍ مُتعلّق بالخدمات يجبُ أن يكونَ مُرتبطاً ارتباطاً وثِيقاً مع عددِ المستفيدين من هذهِ الخدمات ومُبرراً بالكثافة السكانية، والدولةُ ليست مجبرَة على توفيرِ بُنى تحتيّةِ خارجَ مناطق التكثيف العمراني، وليسَ بالضرورة التوسّعُ بالتنظيمِ للتّحايُلِ على هذهِ الحقيقة، وأعتقدُ جازِماً أنّه لَو صُرِفت موجودات صندوقِ فلس الريف - الذي أسيئ استخدامه - على النقلِ الحضريّ داخلَ المدن، لكانَ شكلُ الأردنّ أفضل، وكانَ واقعُ مُدُنِنا الحضريّ أحسنُ بكثير، وتعدّى ذلك لنواحي اجتماعيّة، ولكانت أرقامُ النموّ الاقتصادي مُرضيةً بكلّ المقاييس.
وأخيراً وليس آخراً، أدعو الحكومةَ أن تعيدَ النظر بتوجّهاتها، وأن يكون مشروعها في العمقِ؛ لمواجهة مشاكل إقليم الوسط وتطويره، والذي يسكنهُ أكثر من 65% من سكان المملكة، وليس الحلّ بإنشاءِ مدينة ستكون فرصها العزلة عن محيطها وواقعها الاجتماعي حتى لو كانت معياريةً بكلّ المقاييس، إذ لن تكون أداةً للتنمية أو قاعدةً لحلّ التباطؤ الاقتصادي وعدد سكانها لن يتجاوز بحدّه الأقصى 100-150 ألف مواطن بعد 50 عاماً... وأخيراً، أريدُ أن أؤكّد هُنا أنَّ فكرةَ إنشاء هيئةٍ لتطوير إقليم الوسط أصبحت مُلحّةً في ظلّ غيابِ الرؤية الشمولية، والتي تحتّمُ الانتقالَ من التخطيطِ المحلي وبالقطعة، إلى الإقليميّ الشامل، وتكون مسؤوليةُ هذه الهيئة التخطيط وإعداد مخططاتٍ شموليةٍ تعالجُ استعمالات الأراضي والتحدّيات المرورية والبيئية والبُنى التحتيّة ودراسات النقل العام الحضريّ والسككيّ داخل المدن وبين مراكزها، وأن ترصُدَ الحكومةُ المبالغَ اللازمة لتحقيقِ ذلك... وللحديثِ بقيّـة.
- يمكنكم الاطلاع على فيديو قدّمهُ سابقاً م. عامر البشير عن مدينة عمّان ومُستقبلها / الرّاعي الإعلامي عمون.
*م. عامر البشير
نائب أمين عمّان الأسبق
وعضو مجلس النواب السابع عشر
ورئيس لجنة النقل والخدمات العامة النيابية الأسبق