يا ليت تابع الزعماء العرب, بخاصة قادة دول نفطية أصوات شبابهم المتعلم قبل أيام, وهم يفاضلون الاصلاحات السياسية والانتخابات الحرة على رفاه العيش, معتبرين أنه سيتراجع مستقبلا مع نضوب الموارد الطبيعية.
تلكم كانت حوارات حلقة "مناظرات الدوحة" أواخر الاسبوع الماضي, في أجواء حوارية تفاعلية شارك فيها شباب من غالبية الدول العربية ممن يتابعون دراساتهم العليا في فروع جامعات خارجية ومراكز أبحاث دولية متمركزة في الدوحة.
هذا التصويت بين فئة الشباب الصاعد جاء مغايرا للانطباع النمطي السائد حول صعوبة إقناع مواطني الدول التي ينعم أفرادها بمعدلات دخل مرتفعة بأن الديمقراطية وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار قد تحسن من ظروف حياتهم. أما في الدول ذات معدلات الدخل المتوسطة أو المنخفضة, تبقى أولويات رجل الشارع واضحة: توفير لقمة عيش كريم, سكن, عمل وحد أدنى من الخدمات الاساسية كالتعليم والطب لحفظ كرامته وسائر أفراد أسرته.
صوت 63% من المشاركين ضد ثيمة الحلقة: "هل تفضلّون الثراء على الانتخابات الحرة?"
وحين سأل تيم سباستيان, مدير برنامج المناظرات الدائرة منذ سبع سنوات, مهندسا قطريا في حقل استخراج الغاز المسال:"متى تريد الديمقراطية?" أجابه بعفوية من دون أن يرف له جفن: "الان".
أثار هذا الجواب عاصفة من التصفيق لدى الجمهور الذي حضر حلقة التحاور الثاني ضمن سابع موسم مناظرات متلفزة. وزاد التصفيق حين أردف الشاب: "نحتاج لديمقراطية لتعطينا مساحة للحراك والابداع الانساني... فنحن نهدر مواردنا ولا نشتري أشياء مفيدة".
الحوار الحيوي الذي استمر ساعة عكس حراكا متصاعدا داخل المجتمعات العربية, بخاصة تلك التي تنعم ببحبوحة اقتصادية تؤمن عيشا كريما لغالبية سكانها من فئة الشباب الذين يعيشون في عالم متغير بفعل العولمة وثورة المعلومات اللتين حولتا العالم إلى قرية صغيرة, منفتحة على الرأي والرأي الاخر.
بعد الاستماع لمواقف المتحاورين الاربعة المتأرجحة بين مؤيد ومعارض ومداخلات الحضور الذين انقسموا أيضا حيال الاولويات, أعطى الجمهور رأيه عبر التصويت الالكتروني تحت إشراف سباستيان, الاعلامي البريطاني المخضرم, ومراسل قناة ال¯ بي.بي.سي. سابقا الذي اكٍتسب شهرة عالمية مذ كان المحاور الاول في برنامج (هارد توك) أو "كلام قاس".
تحدث إلى جانب الثيمة الحوارية د. ن جناردهان, محلل سياسي مقيم في دولة الامارات العربية المتحدة. جادل جناردهان بأن دولا عديدة, بما فيها كوريا الجنوبية, برهنت على أن الاصلاحات الاقتصادية غالبا ما تسبق أجواء الانفتاح السياسي والحريات العامة. وبينما أكد "المال ضرورة... فهو يساعد على استمرارية الحياة", رأى في المقابل "أن الانتخابات الحرة ترف" يمكن الاستغناء عنه. وقال جناردهان إن المواطن العادي يبحث عن المأكل, المسكن والمال لأنها أساسيات لتأمين حياة كريمة. وهناك على الطرف الاخر, يضيف المحلل السياسي, "أقلية نخبوية من المثقفين هي التي لا تقبل أن تبادل الحرية لقاء المال". ونبّه إلى أن الاسلاميين حققوا نتائج كبيرة في كل الانتخابات التي جرت أخيرا في العالم العربي, بدءا بفلسطين والعراق, وانتهاء بالبحرين والكويت. ثم خلص إلى القول: "لست متأكدا من أن الشعوب في الخليج العربي مستعدة لدفع تكلفة الديمقراطية".
أيدّه في هذا الطرح جان فرنسوا سيزنيك, رجل أعمال وأستاذ زائر في جامعة جورج تاون ومقرها واشنطن. إذ حذر سيزنيك من أن الانتخابات الحرة بإيقاع سريع لا توفر ضمانة للأمن والاستقرار, بخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي. وفي معرض رده على سؤال لطالبة عربية, أجاب الاستاذ الزائر: "لو فتحت المايكروفونات في مجتمعات الخليج, سنشهد سيطرة للإسلاميين, ولست متأكدا من أنهم سيسمحون لكم بالتحدث وإبداء الرأي بحرية". إلى ذلك رأى أن غالبية الحكام العرب يبدون حماسا لخطوات تحديث محسوبة وتدريجية بما فيها العمل على مأسسة اقتصاديات قائمة على العلم والمعرفة, وتنويع مصادر الدخل بعيدا عن الاعتماد الكلي على النفط, الغاز والبتروكيماويات التي ستنضب بعد عقود.
كما أن عددا كبيرا منهم "يواجه تحدي متشددين (دينيا) في مجتمعاتهم ممن قد يستغلون صناديق الاقتراع لتعزيز نفوذهم السياسي ما يهدد استقرار البلاد وطريقة عيش السكان ورفاهها الاقتصادي". لذلك فإن "الخيار الاكثر أمانا", بحسب وصفة سيزنيك, يكمن "في تبني إصلاحات نابعة من الداخل, وليست مفروضة من الخارج, تسير ببطء وبطريقة مدروسة وتركز على تمكين المجتمعات عبر التعليم وتعزيز الديمومة الاقتصادية".
في الخندق المقابل وقف ماني شنكر أيار, عضو حزب المؤتمر الوطني في الهند ووزير أسبق, والمصري وائل عباس, ناشط سياسي وصحافي فاز بجائزة عالمية تكريما لمدونته "مصر ديجيتال", التي تسلط الضوء على موضوعات تتفاداها الصحافة المحلية عامة مثل التظاهرات والفساد وانتهاكات رجال الشرطة.
قال أيار إن غالبية الدول التي تتمتع باقتصاديات ذات مقدرة تنافسية عالية تشهد انتخابات حرّة قادرة على إزاحة الحكومات التي لا تحقق برامج عملها. إلى ذلك رأى أنه لا يمكن إدامة أجواء الازدهار في ظل الاجواء السياسية المغلقة... "فالديمقراطية هي صمام الامان وبالامكان التمتع بمزيد من المال والثراء والحريات لدى التحول صوب الديمقراطية, وليس باتجاه الدكتاتورية".
ثم قارن الهند, القوة الاقتصادية العالمية الصاعدة بنسب نمو تفوق 9% التي عقدت 15 مرة انتخابات برلمانية منذ الاستقلال عام ,1947 مع الصين, ذات الاقتصاد القوي, لكن وسط تصاعد شكاوى عدد متزايد من سكانها من تشدد الحكومة في التعامل مع ملف الحريات السياسية. ووصف أيار حال الصين "بالابريق الصيني المليء بمياه تغلي, وكلما سارعت السلطات الصينية إلى تنفيس الاحتباس كما يحدث في الديمقراطيات كلما كان ذلك أفضل". وأنهى مداخلته بالقول: "إن الانتخابات الدورية تساعد على تغيير الحكومات التي لا تلتزم ببرامجها وتساعد الناخب والشعب على تصحيح خياراته" نافيا وجود "تناقض بين اقتصاد السوق ورفاه المجتمعات والحريات السياسية". وضرب مثلا باكستان, دولة دينها الاسلام, "تجري انتخابات بصورة مستمرة ولا ترى فيها صعودا لنجم الاسلاميين, إذ أن حصتهم في مقاعد البرلمان بين 2% و3%".
الشاب عباس, الذي تستقطب مدونته الاشكالية الاف المهتمين بالرأي الاخر, قال من جانبه ردا على أسئلة مشاركين: "إذا استمرت الحكومة المصرية في إسكات القوى اليسارية, الليبرالية, القومية والناصرية, فسيفوز الاسلاميون حتما عبر بوابة الانتخابات". وتابع قائلا: "المطلوب اليوم سلسلة من الشروط الموضوعية لتجذير العمل السياسي على أسس تشاركية, بعيدا عن خيار إما الحزب الحاكم أو الاخوان المسلمين".
وهذا, حسبما يضيف عباس, "يتطلب تغييرا في نهج التفكير السائد عبر توافر مجتمع مدني نشط, إعلام حر, إصلاحات في نظام التعليم بعيدا عن سطوة الحكومات, وتعددية سياسية من خلال قيام أحزاب تعتمد على قواعد شعبية, وليس على الدعم الحكومي".
الحوارات الشهرية هذه تحول قطر إلى ملتقى فريد في العالم العربي يوفر منبرا حرا لمناقشة أراء وحجج متضاربة حول موضوعات سياسية ملحة وشائكة تهم المجتمعات المحلية. تسجل كل مناظرة وتبث عبر شاشة تلفزيون ال¯ بي.بي.سي وغيرها من الشبكات العالمية ليتابعها أكثر من 400 مليون شخص في 180 دولة.
ويضمن سباستيان استقلالية تحريرية ل¯ "مناظرات الدوحة" في عاصمة يشكو إعلامها العام والخاص من تراجع مستوى الحريات منذ خمس سنوات.
لكن اللافت أن غالبية الجمهور من الملتحقين بمعاهد "القرية التعليمية" - مشروع أكاديمي بليوني ترعاه السيدة الاولى الشيخة موزة بهدف تعزيز مجتمع المعرفة في بلد محافظ. وقد ساهم في تدريب مئات الطلاب خلال السنوات الماضية على أدب الحوار وأسسه وتقبل التعددية الثقافية والفكرية.
خلاصة المناظرة الاخيرة كرّست حكمة "ليس بالخبز" أو بالمال وحده "يحيا الانسان".
شباب دول النفط لا ينقصهم شيء في الظاهر. يصحون صباحا, يقودون سياراتهم الرياضية أو الفارهة إلى مكاتبهم. يعيشون داخل فلل فارهة تعج بعمال وعاملات المنازل. يمضون إجازاتهم في أجمل بقاع العالم. يعيشون حياتهم لأقصى مدى ويتوقع منهم أن يظلوا ساكتين على غياب الحاكمية الرشيدة.
لكن على المدى الطويل, بخاصة إذا تراجعت موارد الملايين التي تساعد حكومات الدول الغنية على ضمان مستويات معيشة مرتفعة لمواطنيها, سيأتي يوم يشعر فيه المواطن بأهمية أن يكون له صوت مسموع في إدارة شؤون مجتمعه, لتبدأ الضغوط على الحكومات.
لذلك لا بد من تمكين المواطن معرفيا وثقافيا, ما يساعده على اتخاذ قرارات محسوبة قائمة على منهج فكري بعيدا عن العصبيات والاقصاء التكفيري. ذلك يتزامن مع بدء إدخال إصلاحات سياسية تدريجية حقيقية بهدف وضع أسس تمثيل سياسي ديمقراطي من خلال برلمانات غير مختطفة قادرة على مساءلة الحكومات وممارسة التشريع والرقابة.
فسياسات الامر الواقع لم تعد تجدي, حتى ولو كانت غالبية السكان تنعم بحياة هانئة.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)