استئناف مقالة "العزلة" أو "الإصلاحيون المستنكفون"
د. محمد أبو رمان
15-07-2007 03:00 AM
في كتابه "الأمر بالعزلة في آخر الزمان" يقدم الإمام محمد بن إبراهيم الوزير (ت:840 هـ) مرافعة عن شرعية خيار العزلة وتفضيله على الاختلاط بالناس والبقاء معهم، في ظروف وأحوال معينة.
الدعوة إلى "العزلة" ليست "بدعة" ابن الوزير، فهنالك اتجاه واسع في التراث الإسلامي يفضل العزلة والانكفاء على الذات بذريعة ودعوى فساد الناس وعجز المشروع الإصلاحي عن تحقيق نتائج حقيقية. ولعل حركة التصوف في بداياتها وتأكيدها على العزلة والزهد والقيم الإنسانية المتعلقة بالسلم الفردي- الداخلي هي نوع شبيه بالاحتجاج على الوضع الاجتماعي والحرص على الخلاص الذاتي- الآخروي.
بالعودة إلى كتاب ابن الوزير؛ فإنه يورد نصوصاً نبوية تتحدث عن مرجحات العزلة ودواعيها، منها: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شَغَفَ الجبال، ومواضع القطْر يفِرُّ بدِينه من الفِتن"، "ائتمروا بينكم بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحّاً مُطاعاً، وهوىً متبعاً، وإعجابَ كلّ ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسِك، ودع عنك أمر العامة، فإنّ من ورائكم أيامَ الصبر.."، "أظلّتكم فتنٌ كقِطعِ الليل المظلم، أنجى الناس منها صاحبُ شاهقةٍ يأكل من رَسلِ غنمه، أو رجلٌ يأخذ بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه"، "وعن عبدالله بن عمرو قال: شبّك النبي صلى الله عليه وآله وسلّم- بين أصابعه، وقال: كيف أنت يا عبدالله بن عمرو إذا بقيت في حثالةٍ قد مرجت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا فصاروا هكذا؟!، قال: كيف يا رسول الله، قال(الرسول): تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتُقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم"، وعن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال له: "كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟! قلت: ما خار (اختار) اللهُ ورسولُه، قال: عليك بمن انت منه، قلت: أفلا آخُذُ سيفي فأضعه على عاتقي؟ قال: شاركتَ القومَ إذن، قلت فما تأمرني؟ قال: تلزمُ بيتك.."، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذاً؛ فليعذ به".
هذه بعض النصوص، التي أوردها ابن الوزير في كتابه حول فضائل العزلة وظروفها، وبعيداً عن سؤال مدى صحتها وثبوتها، فإن ما نحن بصدده أنها كانت متداولة لدى الفئة المثقفة والمتعلمة أو نخبة من "الإصلاحيين المستنكفين" في المجتمعات العربية والمسلمة في السابق، وأنّها كانت تمثل خياراً احتجاجياً سلبياً تعبيراً عن حالة "عجز المؤمن وجلد الفاجر" (على حد تعبير عمر بن الخطاب)، في سياق الشعور بخيبة الأمل وانسداد الأفق من الواقع السياسي- السلطوي من جهة، وعدم القدرة على النهوض بالحالة الاجتماعية- الثقافية العامة من جهة أخرى.
إحدى الملاحظات الملفتة أن "نصوص العزلة" التي انتشرت وسادت كانت بمثابة انعكاس لمراحل وظروف تاريخية ثقافية، فالأحاديث التي تسمى بـ "أحاديث الفتن وعلامات الساعة" تمّ تداولها في فترة الصراعات الأهلية والحروب المسلحة الداخلية بين القوى المختلفة، والدعوة في هذه النصوص واضحة إلى تحريم استخدام السلاح في هذه النزاعات (كقول الرسول لأبي ذر: "شاركتَ القوم إذن")، وتتضمن هذه النصوص، أيضاً، حديثاً عن الفساد الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، وفي المحصلة فيها دعوة واضحة وقاطعة إلى تفضيل العزلة على المشاركة في "الفساد" المستشري بمختلف جوانب الحياة.
إلاّ أنّ العزلة في النصوص السابقة لا تعني، بالضرورة، هجرة الناس بالمعنى الحسي الاجتماعي، وإنما تعني الهجرة من الشأن العام إلى الشأن الخاص والبحث عن الرزق ("تلزم بيتك".. "تقبل على خاصتك".. "يأكل من رسل غنمه")، وهي حالة تكاد تكون عامة إذا اسقطناها على المشهد العربي الراهن؛ فكم من المثقفين والعلماء والإصلاحيين استنكفوا عن الاهتمام بالشأن العام والتزموا بيوتهم وشؤونهم الخاصة!
صور العزلة المعاصرة لدى النخب المثقفة كثيرة ومتعددة؛ منها انكفاء الأكاديميين في جامعاتهم ودروسهم، وخلوة الباحث والمؤلف مع كتبه ومخطوطاته والمثقف المنتمي مع مقالاته ودراساته، وتخلي شريحة واسعة عن التدخل في الشأن العام أو المساهمة في بناء مشروع إصلاحي يسعى إلى النهوض والانجاز.
وقد تصل حالة الشعور بالغربة والإحباط وخيبة الأمل إلى العزلة المادية الحقيقية ليس فقط عن المجتمع بل عن الحياة، والتعبير الصارخ عن هذه الحالة هو ظاهرة انتحار المثقفين، كما يسجل المفكر العربي البحريني محمد جابر الأنصاري في كتابه "انتحار المثقفين العرب".
قد يرى البعض في خيار العزلة جواباً سلبياً وهروباً وتخلياً عن المسؤولية الاجتماعية من نخب واتجاهات إصلاحية عديدة، إلاّ أن النظر إلى هذا الخيار يتم في سياق أنه نتيجة للظروف الحالية وليس سبباً لها. وإذا كان تغيير الواقع هو بحد ذاته مسؤولية تقع على عاتق المثقفين والإصلاحيين إلاّ أنّ شعور المثقف والإصلاحي بعدم القدرة على أداء هذه المهمة هو أحد أسباب العزلة والاكتئاب والاستنكاف، بخاصة إذا كان "الفساد" قد وصل إلى النخب المثقفة ذاتها؛ فأصبحت تبحث عن مصالحها الخاصة وتجامل السلطة وتسوغ لها أعمالها، فعندئذٍ تلجأ شريحة من المثقفين والإصلاحيين إلى العزلة والصمت حتى لا تكون شريكة في منح المشروعية لهذا الواقع السيئ، وفي هذه الحال يكون خيار "العزلة" بمثابة انسحاب هادئ سلمي من المشهد العام.
بلا شك فإنّ خيار العزلة هو تخلٍّ واستنكاف عن الإصلاح، لكنني، شخصياً، أشعر بالصعوبة في إدانته، بل ربما أتجرأ أكثر وأقول إن العزلة فضيلة حقيقية وخيار مكلف إذا قورن بالخيار الآخر السهل (أي الجري وراء المصلحة الخاصة وتسخير المعرفة والثقافة من أجلها). وفي حال وجد الإصلاحي أنّ الحلقة مفقودة بينه وبين التأثير على الرأي العام، سيتوارى عن الأنظار ويبتعد عن المسرح العام مفضلاً السلامة النفسية، وربما الصحية أيضاً!
استئناف مقالة العزلة تدفع مرة أخرى إلى السؤال عن جوهر المشكلة: هل هي في النخب المثقفة المستنكفة أم السلطة المستبدة- الفاسدة أم المجتمع المستقيل! لكن في المحصلة من الواضح تماماً أنّ الداء السياسي ما يزال يعصف بالمجتمعات العربية التي لم تتمكن إلى الآن من تجذير المشروع الإصلاحي ومأسسته على الرغم من العناء التاريخي الممتد مع "طبائع الاستبداد"، وفقاً لعبارة الكواكبي المشهورة.
m.aburumman@alghad.jo