كندا .. البرد الذي يجمّد الروح
د. أسامة المجالي
24-01-2023 12:23 AM
التقيته بتورنتو في كندا، إيراني اسمه بهزاده، دعاني لشرب كأس من الشاي الدافئ المضمّخ بالزعفران الإيراني. أسعدتني الحميمية الدافئة التي تعاطى بها معي بينما ألتقيه للمرة الأولى في ذلك الحيّ الكندي الملئ بالإيرانيين الهاربين من بلادهم الدافئة المجبولة بالشرق وسحره في أبهى أشكاله. أسعدني تعامله معي وأنا القادم من الأردن بخلفيّتي العربية السنية! دونما تعصب، أو عدوانية، أو أحكام مسبقة. كنا إخوة هناك تجمعنا الغربة ودفء اللقاء الذي قادنا من حديث إلى حديث، ليتسرب البرد القارس من صوته المرتجف قادمًا من ثنايا روحه المتعبة بالغربة والبرد.. لم يحاول أن يخفي تأثير الطقس الزمهريري على جسده وروحه وهو المضطر للإقامة في تلك البلاد التي يستشعر فيها غربته ووحدته صباح مساء .
ليس عن طيب خاطر، اختار كثير من الإيرانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين وغيرهم، تلك البلاد الصقيعية وطنًا بديلًا لهم.
العشرات الذين التقيتهم من إيرانيين وسوريين وعراقيين هاربون من لظى الموت والقهر، وما تَجَمُّعهم في ميادين تورينتو ونيويورك واستكهولم وبرلين، احتجاجًا على مقتل "مهسا أميني" ظلمًا وعدوانًا على يد رجال الحرس الثوري، إلا عنوانًا فرعياً لقضية أكبر، هي رفضهم أنظمة الحكم في بلادهم، تلك الأنظمة التسلطية والقمعية والوحشية، التي تزخر بها بلادنا لا أستثني منهم أحدًا، فهي أنظمة، تواصل، كما أرى، حكم شعوبنا منذ عقود دون حسيب، أو رقيب، وهي تقذف بالمهاجرين من أبنائها نحو البحار المظلمة والزمهرير دونما توقف.
أما الفلسطينيون، فقد شرّدهم نظام عنصري صهيوني ملقيًا بهم على بعد آلاف الأميال في تلك الفيافي والمجاهل الثلجية الكئيبة والشتاءات الرماديّة القاهرة والطبيعة القاسية، ومع ذلك يتلقّفون زائرهم الشرقيَّ بحبّات بقلاوةٍ مقدسيّة مطرّزة بالحب والبهجة، بينما هم محرومون في غربتهم من وطنهم ومن زيتهم وزيتونهم وزعترهم، ومحرومون عند كل حاجز للاحتلال من إنسانيّتهم وحريّتهم التي حرمهتم منها قطعان المستوطنين المسعورين يطاردونهم ويطردونهم من أرضهم وبياراتهم إلى كل زوايا العالم البادرة والبعيدة .
راقبت مليًّا المهاجرين إلى كندا الذين التقيتهم هناك، تحدثت معهم، خالطهم فما رأيت منهم إلا جِدًا واجتهادًا ورغبة في خدمة المجتمع الذي أصبحوا يعيشون فيه. وبحسب ما أرى، هم إضافة إليه وليسوا عبئًا عليه بأي حال من الأحوال، وهذا مما زاد من حزني لأن بلادنا ألقت بمثل هؤلاء الأبناء الأسوياء والمجتهدين إلى هذه الأصقاع الموحشة والموغلة بالوحدة والغربة، غربة، فوق غربة، فوق غربة .
أعرف من خبرتي أن ما أحضر هؤلاء المهاجرين إلى هذه البلاد هي الأسباب نفسها والعوامل إياها التي أحضرت المهاجرين البيض من بلادهم في إيرلندا وأوروبا واسكندينافيا واليونان وسواها؛ القمع والقهر والتسلط والفقر والفاقة والرغبة والأمل. لكن بالنظر إلى ما فعله البيض في هذه البلاد من إبادة للحجر والبشر واستئصالٍ للسكان الأصليين وإبادتهم بمختلف الوسائل المتاحة من قسوةِ ومكرٍ ومرضٍ وخداع.
وكأن الكوكب لا يتسع إلا لهم. أبادوا الملايين من الذئاب والثعالب والقنادس وثيران (البفالو) طلبًا لفرائها، وألقوا بأجسادها جِيَفًا على امتداد السهول والمراعي الخصيبة التي اقتلعوها منها ومن الحياة معًا، حتى أن كاتبة غربية هي ستِف بيني ألّفت رواية مذهلة اسمها "رقّة الذئاب" تصف فيها الذئاب المفترسة بالرقّة والضعف في مواجهة جبروت المستوطنين البيض، وطمعهم الذي لا حدود ولا ضوابط له، وقسوتهم غير المبررة تجاه كل شئ يحيط بهم على امتداد كوكب الأرض.
عندما زرت المتحف التاريخيّ في مقاطعة "نيوفاوندلاند"، لم أجد ذكرًا لسكان المكان الأصليين، إلا في ثنايا قصة حزينة النهاية المأساوية لآخر السكان الأصليين في تلك الأصقاع؛ وهي امرأة وحيدة قضت بالمرض دون أن تترك خلفها أي ذرية. وكما تورد القصة حاولوا، جاهدين، الإبقاء على حياتها ولكن دون جدوى، حيث ما لبثت أن فارقت الحياة بعد أن أصبحت وحيدة معزولة متروكةً بين كل تلك الوحوش، محرومة من بني قومها الذين تم اصطيادهم واحدًا واحدًا وتجميع جماجمهم، أو فروات رؤوسهم مقابل جائزة وُضعت على رأس كلٍ منهم .
ما أشبه اليوم بالبارحة، فالقسوة البشرية والطمع والتوحش هو.. هو ما ينعكس لنا من تلك البلاد وسكان تلك البلاد من البيض، ظلمهم وقهرهم الذي وصلنا إلى عقر دارنا منهم، عندما غرسوا نبتهم الشيطاني "إسرائيل" في بلادنا وأرضنا ثم عملوا على تقسيمنا لكي نبقى ضعفاء مهانين غير قادرين على دحر عدوانهم عنّا، ثم أسلمونا لأنظمة متوحشة مثلهم تحكمنا بالنيابة عنهم بأمرهم ودعمهم، أنظمة من بقايا عبيدهم عندنا، منحوهم السلطة علينا، وأمدّوهم بالمال والسلاح والاعتراف الدولي وكل ما يحتاجون إليه حتى يخضعونا ويقهرونا ويتسلطوا علينا، ثم لم يكتفوا بذلك فملأوا بلادنا حروبًا طائفية، وفاقة، وسوء توزيع للمال والثروة ومقدّرات البلاد، حتى نضطر في النهاية للهرب والهجرة من أوطاننا مفرغينها من عقولها ودمائها، مشتّتين في فيافي الأرض جميعها، وقفارها، ومطارح بردها، ووحشتها، في متوالية مجنونة لا تتوقّف، ولا تنتهي.