من أجل حياة أفضل
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
23-01-2023 12:47 AM
ذكرت في مقال سابق أن العقل الباطن الذي بتحكم في أكثر من 95 بالمئة من حياتنا اليومية يعمل (برأيي) على نظامين الاول هو البقاء-النجاة و الثاني هو المتعة-السعادة. يبدو أن النظام الاول اكثر قوة لأنه أصيل و وجد لحماية اسلافنا من خطر الافتراس فالانسان قديما كان وجبة سهلة للكثير من الجوارح و الوحوش لذلك طور نظام البقاء القائم على القتال او الهرب بهدف النجاة. هذا النظام اعتمد على ضخ الكورتيزون و الادرينالين المحفز لأنظمة الجسم المسؤولة عن القتال و الهرب مثل تحفيز العضلات، زيادة دقات القلب و ضغط الدم، التنفس السريع للحصول على الاكسجين و بالمقابل تثبيط للأنظمة غير الطارئة المسؤولة عن التفكير و الابداع و البناء مثل تثبيط جهاز المناعة و الجهاز الهضمي و البولي و تغييب التفكير العميق و كل ذلك ساعد اسلافنا او نسبة منهم في تخطي الاخطار الآنية و لكنها بالمقابل أحدثت تغييرات جينية عميقة انتقلت كجزء من عملية التكيف للإنسان المعاصر.
فما زال العقل الباطن يواجه الاخطار او ما يعتقده اخطار بنفس طريقة اسلافنا فالتفكير بالمستقبل مثلا و ما فيه من عدم يقين يعمل على تحفيز نظام البقاء-النجاة و هذا ينطبق على كل التفاصيل اليومية. فانسان اليوم لا يواجه خطر الافتراس او الفناء من الكوارث الطبيعية او الجوع او العطش او الامراض البسيطة و لكنه مع ذلك ما زال يواجه كل ما يقدره العقل الباطن خطرا بضخ الكورتيزون و الادرينالين. هنالك فرق وحيد ان الاخطار قديما كانت آنيه بالتالي اما ان يفنى او ينجو الانسان و بعدها يعود لحياته دون التفكير المتكرر و المزمن بالاخطار القادمة أما اليوم فإن ما يقدره العقل الباطن اخطارا هي في حقيقة الامر جزء من تفاصيل الحياة اليومية المتكررة و المزمنة و بالتالي اصبح تأثيرها توتر و قلق متكرر مزمن ما لم يتم اعادة برمجة العقل الباطن بطريقة واعية. استعرض بعض التفاصيل التي يتعامل معها العقل الباطن أخطار و هي مثل دفع الفواتير، تأمين إيجار المسكن، زحمة السير، دفع الضرائب، التعامل مع مدير غير منصف، تأمين تعليم الابناء، الامتحانات، التأخر على موعد او على الدوام و نستطيع ان نملأ صفحات من ذلك و كل ذلك يتم التعامل معه وفق النظام الموروث جينيًا الكورتيزون-أدرينالين.
طبعا سيحدث تكيف لكن ذلك سيحتاج مئات السنين و لنتذكر أن التكيف مع الألوان من تمييز اللون الأحمر الى آخر الالوان التي ميزها الانسان و هو الأزرق اخذت الاف السنين أو ما يزيد.
يأتي السؤال المهم كيف نتكيف اليوم او نهيئ ابناؤنا للتكيف سريعا ما دام ان الاخطار التي ذكرناها و التي نقلت الانسان المعاصر الى توتر و قلق متكرر و مزمن لا يمكن تجنبها او الغاؤها.
لنتخيل سيناريو حدثني به صديق لي حيث كان يسكن جارًا لصاحب شاحنه نقل يذهب الى عمله باكرا قبل طلوع الشمس و يسبق ذلك تشغيل الشاحنة و الضغط عدة مرات على دواسة الوقود فتصدر صوتا مزعجا ينغص نوم صديقي. مع كل ضغطه على دواسة البنزين كان صديقي يشعر بالضيق و التبرم و الانزعاج و التوتر و لكن بالمقابل كان صاحب الشاحنة مع كل ضغطه على الدواسة يشعر بالرضى لان شاحنته تعمل و تعطيه أمل ليوم جديد برزق جديد لأسرته. الى أن تحدث صديقي يوما مع صاحب الشاحنة و تفهم الاخر و خفف من الضغط على الدواسة فبقي عنده الأمل و تحسن نوم صديقي.
من هذا السيناريو نجد أن الحدث نفسه كان تأثيره مختلفا على كل من صديقي و صاحب الشاحنة و كذا رد الفعل كان متضاد فهو أمل لاحدهم و قلق للاخر.
هذا هو جوهر الموضوع أننا لن نستطيع تغيير العالم من حولنا و لن نستطيع الغاء التفاصيل من حياتنا فهي جزء من النظام الاجتماعي و الحياتي اليوم و لكن نستطيع العمل على التحكم برد فعلنا و ايجاد الوسائل لتقليل تأثير هذه الاحداث علينا. ذلك قد يكون صعبا على من نضج و استقر عقله الباطن على برمجة معينة قررتها جيناته و آلية تربيته مبكرا و لكن بالتأكيد أن هنالك الكثير مما قد ننفع به ابناؤنا لبرمجة افضل قائمة على الأسس التالية برأيي:
الاحداث و التفاصيل موجودة لتبقى و بالتالي لا يمكن تجنب المثيرات و لكن يمكن العمل على تخفيف تأثيرها علينا و التحكم برد فعلنا فنحن لن نستطيع كأفراد الغاء الازدحامات المرورية او التخلف عن سداد التزاماتنا أو تغيير وظائفنا متى شئنا أو الغاء الامتحانات أو التأثير في مسارات السياسات العالمية أو توجيه المستقبل و لكننا نستطيع التقبل و التعديل و التحكم في برمجتنا.
ثانيا فإن المشاكل التي يواجهها البشر يوميا لو أردنا تصنيفها لوجدنا أن اغلبها متشابهة و لكن كل منا يتعامل معها و تؤثر في عاطفته و سلوكه بشكل مختلف.
ثالثا هنالك في جيناتنا جزء من البرمجة ورثناه عن اسلافنا (أن كل ما يقدره العقل الباطن خطرا يتعامل معه على نظام البقاء-النجاة بالقتال أو الهرب) لكن تفاصيل اليوم تختلف و لا بد لها من الصبر و الأمل فإنسان اليوم لا يستطيع مثلا حل مشكلة دعوى في محكمة بضرب المدعي أو المحامي الخصم كما برمج عليه اسلافنا (نجاة او فناء) و لكن عليه تقبل التفاصيل و الصبر و الأمل و الاجراءات دون أن يبقى نظام البقاء-النجاة على وضع التشغيل المستمر و لكن نعيش الحياة بتفاصيلها و نحفز نظام المتعة-السعادة في العقل الباطن القائم على الدوبامين-اندورفين-سيروتونين-اوكسيتوسين ليضعف و يغطي على نظام البقاء-النجاة القائم على الادرينالين-الكورتيزون.
و يبقى الأمل دوما لغدٍ أجمل هو وقود الحياة.