يبدو أن المثقّف قد غاب عن الساحة منذ مدة: الساحة الوطنية والعربية تحديداً. وهذا أمر مُحزن وخسارة كبيرة.
لعقود كان لمثقفينا حضور قويّ، وكان لهم تأثير واضح في المشهد، وساهموا مساهمات كبيرة في نقل المعارف الرصينة والرؤى الثاقبة والطروحات العميقة، إضافة إلى أساليب الخطاب الراقي والحكمة في تناول المواضيع.
وقد ساهم ذلك في تثقيف الآخرين، وتوسيع مداركهم، وتهذيب سلوكهم، وتوجيه دفة السفينة نحو برّ الأمان.
أما اليوم، فنشعر أن دور المثقف قد انحسر لدرجة التلاشي، وأن نجمه قد أفل. وأن الساحة أصبحت متروكة لغيره، ممن يقدمون طروحات تهمّهم شخصياً، أو «آراء» لا تتسم بالعمق والمصداقية، وأحياناً كلاماً لا ينفع.
الأسباب عديدة، وهي بحاجة إلى بحث معمق.
منها أن الزمن تغير، فمصادر المعلومة أصبحت أكثر وفرة ويسراً من ذي قبل؛ ومن هنا تجد بعضهم يذهب إلى تلك المصادر مباشرة بدلاً من الحصول عليها من المثقفين الذي كانوا يشكلون مصدراً رئيساً للمعرفة.
ومنها ازدياد وسائل نقل المعلومة وتبادلها على نحو غير مسبوق، مع أن ما يتمّ نقله وتبادله، كما ذكّرنا، أكثر من مرة، قد لا يكون موثوقاً.
ومنها كثرة عدد المتحدثين في الأمور، على نحو اختلط فيه الحابل بالنابل، فلم تعد تميز بين المثقف وغيره.
وفي هذا السياق، أجاب أحد الكتاب الغربيين عندما سئل عن سبب غيابه عن الساحة قائلاً: «لم أغب؛ لكن الفلاسفة كثر هذه الأيام».
وهنالك أسباب أخرى كثيرة.
قد يقول بعضهم إن سبب غياب المثقف هو ظهور المتخصص؛ فهذا زمن التخصص في الحقول المختلفة.
والحقيقة أن دور المثقف والمتخصص لا يتعارضان، والساحة تتسع لكليهما: فالمتخصص يقدم أفكاراً في حقل معرفي أو حقول محددة؛ ونحن بحاجة ماسة إلى تلك الأفكار. أما المثقف فيقدم آراء عابرة للحقول؛ كما أنه، بعكس معظم المختصين، يقدم المعلومة بسلاسة ويسر بحيث يستطيع فهمها القارئ العام.
سؤال آخر مهم: هل سبب غياب المثقف يكمن في أننا لم نعد بحاجة إلى دوره، والذي كان أكثر أهمية في زمن مضى؟
والجواب: كلاّ.
دور المثقف مهم، لا بل أساسي اليوم، ولا يمكن لأحد أن يسدّ الفراغ الذي يتركه.
فالمثقف هو الذي يهضم المعارف في العديد من الحقول ويقدمها لنا بأسلوب سلس وشيق، ويعطينا العصارة الصافية. وهذا دور لا يمكن أن يناط بغيره.
وهو الذي يمتلك النظرة الثاقبة والعقل النير وأدوات التواصل الناجعة.
يقول الفيلسوف الأمريكي إمرسون: المثقف «هو العقل المفكّر في المجتمع» وهو «من يرشد الناس بتبيان الحقائق من أشباهها».
أما المفكر إدوارد سعيد فيقول في كتابه المهم «تجليات المثقف": «المثقف هو من يحمل الرسالة من الناس وللناس».
أما بعد، فصوت المثقف في غاية الأهمية هذه الأيام وعلى مجتمعاتنا العربية إعادة إحياء دوره لتمكينه من أداء رسالته الإيجابية والتي تصبّ في مصلحة المعلومة الموثوقة والمعرفة الرصينة والحكمة وتقدم المجتمع وازدهاره؛ وأول ما يجب فعله لتحقيق هذه الغاية تأمين وسيلة التواصل الملائمة للمثقف، حتى لا يضيع صوته في محيط من كلام قد لا يسمن ولا يغني من جوع، وحتى لا نفقد البوصلة.
(الراي)