اعتمدت مقاربة الحل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ اتفاقية أوسلو عام 1993 على ما أصبح يدعى بحل الدولتين، وهو مقاربة تعتمد على مبدأ الفصل بين الجانبين، والتوصل إلى إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، أي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. ومع أن اتفاقية أوسلو لم تذكر حل الدولتين صراحة، إلا أن الجانب الفلسطيني والعربي، كما المجتمع الدولي، اعتقدوا أن هذا هو الحل المنطقي والمستدام للصراع.
وتلاقت الجهود السياسية والأكاديمية منذ أوسلو لتحاول الخروج بحلول مبتكرة توصلنا إلى حل الدولتين، بطريقة تعالج عددا مما يطلق عليه قضايا الحل النهائي، ومن أهمها القدس، وكيفية تقاسمها والفصل بين المستوطنين الإسرائيليين والسكان الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية تحت الاحتلال. وبقيت هذه الجهود السياسية مستمرة في محاولاتها الإبقاء على عملية تفاوضية بين الجانبين، حتى فشل آخر جهد قام به وزير الخارجية السابق جون كيري عام 2014. إلا ان المسارين السياسي والأكاديمي، حول سبل حل الصراع بدآ بالافتراق حتى قبل فشل آخر جهد دبلوماسي، ذلك أن المسار الأكاديمي لم يكن مقيدا بأية اعتبارات سياسية، وإنما بالأرقام والحقائق على الأرض. بدأ هذا المسار يطرح تدريجيا مسألة صعوبة، ثم استحالة تحقيق حل الدولتين، في ظل التزايد المطرد لأعداد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، حتى وصلت اليوم إلى أكثر من سبعمئة وخمسين ألف مستوطن، أي ما يقرب من ربع السكان الفلسطينيين الأصليين، ما ينافي الأساس الذي اعتمد عليه حل الدولتين، وهو إمكانية الفصل بين الجانبين.
وبدأت منذ أكثر من عشر سنوات أبحاث أكاديمية جادة تنادي باستحالة حل الدولتين، وتحاول أن تقدم بدائل لهذا الحل مبنية على أساس حل الدولة الواحدة الديمقراطية، إما من خلال الوصول إلى دولة ثنائية القومية، أو حل فيدرالي بين الجانبين، أو غير ذلك. وبالكاد هناك اليوم باحث او باحثة جادين في العالم ما زالا يؤمنان بإمكانية تحقيق حل الدولتين. رفض المسار السياسي مجرد الخوض في حلول كهذه، متهما إياها، إما بالبعد عن الواقع وقصر النظر السياسي، أو بالسذاجة في أحسن الأحوال، إلا أنه لا يمكن إخفاء الحقائق، خاصة أن المسار السياسي اكتفى بترديد دعمه لحل الدولتين، من دون أن يقرن ذلك بأية خطة، أو جهد لتحقيقه منذ ما يقرب من عشر سنوات، ما أعطى إسرائيل المجال لتجاهل هذا المجتمع الدولي، وارتكاب المزيد من الانتهاكات ومنها بناء العديد من المستوطنات، ما ساهم في قتل حل الدولتين أساسا.
بطبيعة الحال، ليس المسار السياسي غافلا عن الحقائق على الأرض، ولكن اعترافه بموت حل الدولتين سيضطره إلى دعم حلول بديلة جميعها إشكالية له، وعلى رأسها حل الدولة الواحدة، ولذا اتخذ المسار الأسهل بالنسبة له، وهو ترداد دعم حل الدولتين وهو يعي تماما استحالته. أزعم أن القصور الذي انتاب أنصار حل الدولتين، أو الدولة الواحدة، يكمن في تجاهل حقيقتين أساسيتين في محاولة الجانبين البحث عن شكل الحل، الأولى هي غياب الإرادة السياسية لتحقيق الحل، فالحكومات الإسرائيلية المتلاحقة وعلى الأقل منذ تولي نتنياهو رئاسة الوزراء عام 2009، غير معنية بأي حل. هدف الائتلاف الحاكم في إسرائيل اليوم ضم أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية بطبيعة الحال، وزجهم في سجن آخر مفتوح يشبه الوضع في غزة، لحين تحقيق الترانسفير الفعلي أو الإداري لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ونقلهم فعليا، أو إداريا ليصبحوا تحت مسؤولية الأردن أو مصر. من لا يدرك ذلك لا يفهم إسرائيل اليوم. أما المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، فقد أصبح من الواضح أن اهتمامات الأخيرة وأولوياتها تكمن خارج المنطقة، باستثناء الملف النووي مع إيران، وأن ليس في نيتها في المستقبل المنظور إعادة إطلاق أي جهد سياسي لحل الصراع. أما الاتحاد الأوروبي، فما زالت سياسته في الشرق الأوسط قائمة على الوقوف وراء الولايات المتحدة، وعدم إطلاق مبادرات مستقلة.
أما الحقيقة الثانية والأهم فهي تجاهل المجتمع الدولي للحقوق الفلسطينية، السياسية منها كما المدنية أو الإنسانية، في سعيه نحو شكل الحل، باعتبار أن موضوع الحقوق يمكن تأجيله حتى قيام الدولة الفلسطينية، التي ستحقق التطلعات وتقوم على أساس الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، بمعنى آخر، منح المجتمع الدولي الأولوية لشكل الحل على حساب الحقوق الفلسطينية. وبغض النظر عن وجاهة هذه المقاربة في السابق، فقد أدت إلى انتهاكات واسعة للحقوق الفلسطينية لم يعد بالإمكان تجاهلها ريثما يتم البحث عن شكل للحل قد يطول لعقود من الزمن، بل إن الفلسطينيين اليوم، سواء أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال، أو ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية، يعيشون تحت نظامين قضائيين منفصلين، أحدهما يميز بين الفلسطينيين تحت الاحتلال والمستوطنين الإسرائيليين، والآخر يميز بين المواطنين الإسرائيليين اليهود والعرب (قانون القومية اليهودية). وهذا بالطبع هو التعريف القانوني للابرتهايد، او نظام الفصل العنصري. إن مقاربة البحث عن حل بينما يتم تجاهل الحقوق الفلسطينية وصلت إلى نهاياتها، ولم يعد بالإمكان تجاوز موضوع الحقوق، خاصة في زمن يولي المجتمع الدولي الشعبي كما الرسمي أهمية متزايدة لهذا الموضوع.
المطلوب اليوم مقاربة جديدة تعكس المقاربة السابقة، مقاربة تصر على إيلاء موضوع الحقوق الأولوية القصوى، بغض النظر عن شكل الحل الذي يحظى بفرصة شبه معدومة في المستقبل المنظور. إن الإصرار على الحقوق المتساوية كأساس لأي شكل مستقبلي للصراع من شأنه أن يحوز تأييدا دوليا واسعا، إن أحسنت ادارته، ومن شأنه تركيز الاهتمام على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني اليوم، بدلا من تأجيل النظر فيها إلى أجل غير مسمى. هناك مسؤولية كبيرة على الجانب العربي لإقناع المجتمع الدولي أنه في حالة الاستمرار في تجاهل موضوع الحقوق الفلسطينية، سيضطر إلى التعامل مع مشكلة أكبر بالنسبة له، وهي الأبرتهايد الإسرائيلي، وفي وقت قريب.
القدس العربي