تنام حزينة "تينة ابو حجيلان" في مليح القديمة. تتثاءب طويلا لكن النوم لا يطاوع جفنيها المُسهدين. حزنها يتعاظم وشقاؤها يتكاثر كفطر بري بعد رعد . هي ملّت غابة اسمنت تحيطها احاطة السوار بالمعصم. كانت وحيدة القرية ومدللتها، ومهوى الافئدة وقبلة الناظرين. محظوظا كان من يناديه ذاك الحجازي ليعطيه تينا بقوله "تفضل عالخير يا لاقي الخير". كان حجازيا طيب المعشر سمح الوجه والمحيا، ربعة في طوله، يمشي بخطى وئيدة، وكان هذا دأبه حتى في الملمات. عاش في قريتنا ردحا من الزمن تجاوز خمسة عقود . لكن قلبه ومن قبله قلب أبيه كانا مشدودين الى الجنوب ترقباً للحظة العودة الى بلادهما في الجزيرة العربية. عاد ابو حجيلان بعد ان اصبحت "الجزيرة" جاذبة للباحثين عن حياة ومال اكثر مما هو متاح في بلادنا بكثير . جاء ابوه حسبما روى الكبار على راحلته مع رهط من الحجازيين الساعين لكلأ ابلهم بعد ان اجدبت بلادهم سنينا طويلة فاضطروا للهجرة بها الى الشمال حتى بلغوا مليح. احب الحجازي صالح ابو حجيلان مليح لطيب معشر ناسها وحنوهم عليه وولده الوحيد محمد الذي نقل انه رحل عن الدنيا قبل سنين قليلة في مدينة الرياض.
وفي ثنائية تحكي سيرة الزمن في القرية تتقابل "تينة ابو حجيلان" مع الدار الكبيرة"، التي ما يزال بابها يثير دهشتي بصموده امام عاديات الزمن والمتغير . ازور المكان احيانا لاتامله، ليحكي حكايات الراحلين من اهل وناس وزمن جميلين.
قالوا ان رايهم استقر بعد شتوة وثلجة عانوا خلالهما الكثير على تشييد دار قبالة شجرة الحجازي صالح لتكون ملاذا ومكانا يلتم شملهم فيه. نقلوا ان احدا عارض فكرة الانشاء دون ان يدفع ببديل، مكتفيا بقوله "هذي حياتنا وحياة ابهاتنا وش نسوي". ودفعوا حججا من مثل ان ذلك "كار مو كارنا".
وليكون رايهم مؤثرا قال المعارضون ان في فكرة الدار تشبها باهل مادبا التي كانوا يسافرون اليها على رواحلهم في ذهابهم الى "بابور الطحين" والتسوق من عند " جميل الضباعين" و"جريس الزوايدة" . كانوا يبتاعون الحلاوة و"الكعيكبان" والسكر و" حامض حلو" والملبوسات .
تبدو "تينة ابو حجيلان" ذاكرة لا تقبل التواطؤ مع النسيان، فهي ملمح مليء بحساسية مفرطة حيال المستجد غير القابل للتبلور معلما اصيلا.
في الاثناء يدفعني شغف القص الى الغوص في ذاكرة جمعية للناس، لكني اتردد عن مواصلة الرحلة فاتوقف خشية مناطق مسكوت عنها عبر عقود، لاكتشف انني فشلت في نزع صاعق الكتابة والولوج الى تلك القصص وتفجيرها في مسعى لاماطة اللثام عن مواقف مجتمع التينة حيال الحرمان والانتظار والحلم والتناقضات في تجليها المجتمعي البسيط والمعقد معا.
كانت سويعات الاياب من مادبا فرصة للتداول في شؤون حياتهم وحسمها بنفوس راضية. ذات اياب كان الجو صحوا والسماء صافية وصمت الطبيعة البكر لا يبدده الا وقع مسير رواحلهم في طرقات كانت تندثر معالمها لقلة السائرين، قال علي الذي خبر الارتحال بعيدا عن القرية وفضاء سهولها المنفتحة على الصحراء شرقا: نحن نمارس الضجر ونجهد لنحصل على اقل القليل. وتساءل : وسط هذه الإكراهات التي نعيش لم لا نرحل بعيدا؟، الى الشمال او ما هو ابعد. لنختار القدس وارض فلسطين بدل هذا الجدباء .
وحيال صمت مرافقيه مضى مستسرلا : في مشقة نحاول ان نعيش وهناك جباة ستوفدهم حكومة عمان بعد الحصاد، وسيقضي طمعهم على احلامنا في بيادر ومحصول ننتظره طيلة العام.
كان علي يعبر عن طور جنيني لمقاومة ضد ابتلاع وقضم مارسه مرابون ومندوبو حكومة لا يظهرون الا وقت البيادر. كان يقاوم بقاء يعني تلاشيا في مكان لم تختلف حياتهم فيه عن حياة سابقيهم، شظف عيش واستلاب وغلظة كانت سيماء هذه الحياة.
ذات مرة قال يائسا انه يحلم بسعادة غامرة مثل حلم بدوية بمئزر جميل يميطه الحبيب لحظة اللقاء.
كان مجتمع التينة ينتظر من يملأ الكلمات المجوّفة ممارسة او محاولة ليخرج عن السياق الممتلئ تواطؤا. كان يلقي اسئلة ما تزال تنتظر اجاباتها حتى اليوم .
muleih@hotmail.com