الرسائل التي تصلنا من أهلنا في معان ليست، فقط، مجرد ردود أفعال على تداعيات «حدث» لم ننهض كما يجب لـ»تطويقه» واستيعابه وتجاوزه، بل هي استخلاص «لحالة أزمة» تراكمت فيها المشكلات منذ سنوات طويلة، ثم استعصت على «الحل»، لا لأن الحلول غير ممكنة، بل لأن البعض تعمد اهمالها، او استسهل الذهاب الى عناوين أخرى لـ»التغطية» على أسباب الأزمة، أو لـ»إدارتها» وتوظيفها في اتجاهات غير صحيحة.
السؤال : لماذا تتكرر مشاهد الازمة في مدينة معان دون غيرها، ولماذا صمتنا لثلاثة عقود وأكثر على (أزمتها)، وهل صحيح أن مشكلة معان أمنية، فقط، أم اقتصادية وسياسية واجتماعية في المقام الأول؟
الإجابة تحتاج كثيرا من الشرح و التوضيح، ويمكن – هنا- الاسترشاد بما تضمنه التقرير الذي صدر عن مركز الدراسات الاستراتيجية (1993) وجاء فيه ان ( معان ليست حالة خاصة أو استثنائية في المجال الاقتصادي من حيث الفقر والبطالة و تواضع الخدمات، فهي تتشارك مع غيرها من المحافظات الأردنية في هذا الهم، ولكنها حالة خاصة في بنيتها الاجتماعية حيث تنعدم الثقة بين معظم أهلها وبين مؤسسات الدولة، وحيث يغيب التنسيق حول واقعها ومشكلاتها بين أجهزة الدولة ايضا، وحيث تسببت سياسات الانحيازات الرسمية لبعض نخبها التي لا تمثلها في تفاقم أزمة الناس فيها ).
استأذن في نقطة نظام هنا، وهي أن الحديث عن أزمة معان ( التي امتدت للاسف الى بعض أطرافها لاحقا)، اقتصر فقط على عام واحد (1993) حيث صدرت اربع دراسات ناقشت الموضوع، وهي ( معان أزمة مفتوحة) لمركز الدراسات الاستراتيجية، و المشاركة السياسية و(حدود الأمن و السلام الاجتماعي ) للزميل باسم الطويسي، و(قلاقل متكررة في معان ) لمجموعة الأزمات الدولية، وتقرير حكومي حول (اوضاع معان ) أعدَّته آنذاك لجنة وزارية، ورغم ان الدراسات اتفقت على ( تشخيص الازمة) إلا أن الجهود توقفت تماما منذ ذلك الوقت وكأن صفحة الازمة طويت، رغم أن الأحداث تكرَّرت منذ ذلك عشرات المرات ( آخرها اضراب الشاحنات).
من الملاحظات هنا ان تقريري الحكومة ومجموعة الازمات أشارا الى إن من أسباب الازمة : ضعف الانشطة الاقتصادية، وانخفاض المستوى المعيشي، وأسلوب الاسترخاء الحكومي، والافراط في استخدام العنف المتبادل بين الحكومات و المواطن، ( التقرير الحكومي أشار آنذاك الى استخدام القوة المفرطة غير المبررة في معالجة الأمور) و التهاون في تطبيق القانون.
إذا دققنا أكثر فيما ذكرته هذه الدراسات سنكتشف أن ازمة معان ظلت مفتوحة منذ العام 1993، وان الذين حاولوا مواجهتها اختزلوها في ( الحل الأمني) فقط، ومع ان تكلفة هذا الحل كانت باهظة ماديا ومعنويا، وكان يمكن أن يتم ( استثمار) التكلفة في مجالات أخرى أجدى و أنفع، إلا أن ثمة ( تعمدا) - على ما يبدو - في توظيفها لأهداف اخرى.
سنكتشف، أيضا، أن غياب السياسة عن «معان» أسهم أيضا بتفاقم الأزمة، كما ان محاولات اضعاف الوسائط الاجتماعية المعتبرة، او دفعها للاشتباك مع بعضها، افقد المجتمع المحلي قدرته على الحركة و الضبط و التدخل الايجابي، زد على ذلك ان الانتقائية بتطبيق القانون و التعسف في استخدامه، احيانا، اربكت المشهد أكثر وأكثر.
باختصار، حان الوقت لكي نفكر جديا بمعالجة ازمة معان وأطرافها، وان نتجاوز ما انتجته من دمامل، ومن صداع للدولة والمجتمع معا، على امتداد العقود الماضية، فلا مصلحة لأحد في إبقاء (معان) جرحا نازفا، نحن نخشى من معان ونخشى عليها ايضا، ونحن نريد أن تتحول معان الى نموذج للتنمية و البناء، لا للعطالة و الهدم، والى مثال للسماحة و العفو – كما كانت دائما – لا الى منطلق للقلق والتشدد.. والى صورة للصحراء الجميلة، لا الى صورة للصحراء القاحلة الطَّاردة، والمُطاردة أيضاً.
(الدستور)