بموضوعية ومن دون الحاجة للإنحياز للشرق أو للغرب، أو لروسيا الاتحادية أو لشرق وجنوب أوكرانيا أو لغرب أوكرانيا، يتضح لي بأن الغرب الأمريكي الذي حرّك مبكرا الجمر من تحت رماد الأزمة الأوكرانية - الروسية المعاصرة منذ العبث بحجارة شطرنجها عبر الثورات البرتقالية الملونة قبل وأثناء وبعد انقلاب عام 2014 في العاصمة ( كييف ) الذي صنعته بقوة التمويل الأسود وأجهزتها اللوجستية، هو نفسه الغرب الذي يريد للحرب الاوكرانية منذ اندلاع عمليتها العسكرية الروسية الخاصة بتاريخ 24 شباط 2022 واعتراضها بحرب مفتوحة عبر تكديس السلاح الحديث والمال الوفير وبفاتورة لامست المائة مليار دولار أن لا تنتهي وتذهب الى الخلود ليس بسبب اختراق روسيا للقانون الدولي ولسيادة أوكرانيا – الدولة المستقلة عام 1991 عن الاتحاد السوفيتي المنهار طوعاً وقتها، وليس لاختراقها لمعاهدة ( جنيف ) لعام 49 ، ولا بسبب استهداف المدنيين الاوكران كما يعتقد الغرب رغم أن العملية العسكرية الروسية تحركت لتتصدى لتطرف الجيش الأوكراني، وللتيار البنديري المتطرف، ولفصائل ( أزوف ) الأكثر تطرفا وعنصرية، وانما لإستنزاف روسيا الاتحادية التي غدت منذ استقلالها عام 1991 تشكل ميزانا دولياً، والقائد لعالم متعدد الاقطاب، والمسبب الرئيسي لضرورة انهيار احادية القطب المتغطرس - مظلة حلف ( الناتو ) المعادي لروسيا في زمن هو شاهد عيان على رغبة روسيا– بوتين للانضمام اليه بقصد انهاء الحرب الباردة وسباق التسلح والشروع صوب حالة تشاركية اقتصادية وسياسية شرقية روسية وغربية امريكية، لكن هيهات ؟!
والعملية الحرب التي قاربت العام يصرُّ الغرب على أن تستمر خوفا من تحقيق روسيا نصرا كاسحا فيها ، وهو الذي يحصل الان بعد سيطرتها على الاقاليم الخمسة الاوكرانية السابقة (القرم، ولوغانسك، ودونيتسك " الدونباس "، وزاباروجا ، وجانب من خيرسون)، ويبدوا الغرب حاسدا للنصر الروسي وغير راغب فيه لكي لا تُهزُّ هيبته أمام العالم، لكن حقيقة النصر يصعب تغطيتها بغربال، وآن أوان الغرب أن يصحوا من غفلته واستغفال الولايات المتحدة الامريكية له، ومثلما حولت أمريكا ( كييف ) الى محرقة وأقصد غرب وشرق أوكرانيا وجنوبها، واجبرت روسيا على اجتياح أوكرانيا، استنزفت وحرقت جيوب الاوربيين المحتاجين للطاقة والمساعدين لها في الحرب المشتركة، ولما يهدر في الحرب الاوكرانية المجنونة من اموال غزيرة فاقت التوقع، وروسيا الاتحادية باقية قوية ولم تهزها رياح الغرب، وهي قطب ودولة عظمى مساحتها أكثر من 18 مليون كلم²، وتعتمد على ذاتها في صناعاتها الوطنية ومنها العسكرية، وتطورها العسكري التقليدي وفوق النووي والفضائي مشهود له عالميا، ولها تجربة عملاقة في الزمن السوفيتي إبان الحرب العالمية الثانية ( العظمى 41 45) التي حققت فيها مع السوفييت والحلفاء نصرا وصل الى عمق برلين والرايخ الالماني ( البرلمان) ، تتحقق برفع علمهم المشترك فوقه.
وفي المقابل لم ينص القانون الدولي ولا معاهدة ( جنيف ) على عدم جواز الثأر الروسي لمجزرة شرق وجنوب أوكرانيا على يد نظامهم السياسي في ( كييف ) الذي تسبب في قتل وتشريد أكثر من 14 الف مواطن على مدى أكثر من ثماني سنوات، جلهم من الروس والاوكران الناطقين بالروسية وسط تجمع بشري قوامه سبعة ملايين انسان، وتؤكد روسيا دائما بأن الأوكران اشقاء لهم وجيران التاريخ ، والعمق الايدولوجي، وللروس قناعة أكيدة بأن الحرب فرضت عليهم ولم يختاروها، لذلك استشار الرئيس بوتين كبار السياسيين والجنرالات قبل أن يتخذ قرار العملية الحرب، ولم يكن قراره فرديا اتوقراطيا كما يشاع، ولكنه جاء ديمقراطيا واستجاب لحدس موسكو بضرورة رد الصاع الغربي بصاعين، واعتراض المؤامرة الغربية ومواجهتها اصبحت فرض عين، والذهاب بصلابة لمعركة المصير والسيادة والكرامة شكلت ضرورة وطنية وقومية، واستغربت روسيا سلوك (كييف) السلبي مع مواطنيها الاوكران في زمن حاجتها اليهم ليكونوا السند، وليرغبوا بالعيش المشترك تحت مظلة السيادة الاوكرانية الواحدة، ومن اجل الاستقرار، لكن بوصلة العاصمة الاوكرانية انحرفت عن مسارها، وادارت ظهرها لروسيا العمق الاستراتيجي لتتجه صوب سراب الغرب، وحلفه ( الناتو ) الذي لازال يرفضها حتى الساعة .
وحضور القانون الدولي لا يعني تكبيل ايدي روسيا الاتحادية لكي تدافع عن سيادتها وعن اهلها وناسها في العمق الاوكراني بعد تعرضهم لمظلمة كبيرة بدأت بمحاولة ضمهم لنظام ( كييف ) قسرا، وانتهت بقتل الاف منهم من دون وجه حق أو تبرير مقنع، ولم تكن روسيا يوما عدوة لأوكرانيا أو لشعبها، وعاشوا معا حياة سوفيتية واحدة، ومجاعة واحدة في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي، ولم تكن هناك مشكلة يمكن ملاحظتها وسط المكون الروسي الاوكراني في عهد الرئيس الاوكراني فيكتور يونوكوفيج وقبل ذلك، فما الذي جرى للقيادة الاوكرانية عام 2014 والى الامام ؟ وكيف انقلب سحرهم والغرب ضد روسيا على رؤوسهم ؟ الم يعرف الاوكران غربا بأن روسيا العظمى ليست سهلة المنال، ويصعب تحقيق نصر عليها ؟ وصولاتها المنتصرة مع اليابان في الزمن السوفيتي ومع النازية الهتلرية معروفة تاريخيا، ولم تدخل والسوفييت افغانستان عام 79 لتبقى، وتقف الى جانب سورية الا بقصد انقاذها، وشنت حربا على الإرهاب وانتصرت فيها في أكثر من مكان .
وثمة كلمة لابد من قولها بأن التطرف، والعنصرية، وعقلية المؤامرة يصعب أن تقود أوكرانيا من وسط عاصمتها للوصول الى بر الامان، والاستقرار، والى الوسطية والاعتدال، ولا تستطيع أوكرانيا العيش بسلام من دون روسيا، ولا يوجد ما يمنع اقامتها لعلاقات دولية متوازنة في المقابل ، وإما أوكرانيا مستقلة كما كان ذلك عام 1991 ، واما مستعمرة كما حدث معها عامي 2022 2023 ، وروسيا بالمناسبة لاتقبل بأقل من النصر، وهي لم تُدخل جيشها في عملية خاصة لتخسر أو تنهزم، أو تتراجع عن ما حققته من انتصارات عبر الاقاليم الخمسة الاوكرانية السابقة التي ضمتها لسيادتها عبر صناديق الاقتراع والرقابة الدولية وتدخلها العسكري، وهي أي روسيا دحضت نظرية " ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة "، فلا توجد قوة على وجه الارض تستطيع اعادة ما حصلت عليه روسيا بهدف حماية اهلها واستقلالها، وليست هي من تورطت بالحرب وانما غرب اوكرانيا والغرب الامريكي كله، ولن تكون هناك فائدة من استعراض العضلات في الغرب عبر الدفع بالاسلحة الحديثة والمال الاسود الى وسط ميدان القتال الروسي الاوكراني، وسلاحهم الغربي اصبح تحت مرمى الجيش الروسي، ومالهم يهدر في غير مكانه .
وفي الختام هنا ألاحظ ايضا بأن ماكنات الاعلام خاصة الغربية والموجهة منها تبالغ في عدد قتلى الجانب الروسي المقاتل سواء كانوا من الجيش أو من الاحتياط، وأخص بالذكر حادثة الغدر الاوكرانية في مدينة ( ماكيفكا ) في الدونباس مؤخرا، والهدف المساهمة في اشاعة الفوبيا الروسية وترهيب روسيا واحباط معنويات شعبها، وتبقى روسيا الاقرب لأوكرانيا تاريخيا وجغرافيا وديمغرافيا، والغرب يرتحل اليها باحثا عن الخراب والدمار، وأكثر دول الغرب مكرا لروسيا هي امريكا وبريطانيا، وفاتورة الحرب يدفعها الشعب الاوكراني اولاً، ويبقى من دون ماء ولا كهرباء، ومن دون بنية تحتية صالحة للحياة، وهو امر مؤسف.