برازيليا والمدينة الجديدة في الأردن!
اللواء محمد البدارين
16-01-2023 06:25 PM
برازيليا، هي اجمل المدن، استخلقها الخيال البرازيلي من العدم عام 1960 ، فأصبحت رغم حداثة سنها ارثا عالميا في سجلات اليونسكو ، يقطنها ملايين الناس ويؤمها ملايين السواح ، كتحفة معمارية تلوح من الاعالي على شكل فراشة ، لا تنقصها أية لمسة من الجمال الاخاذ والذوق الرفيع ، بساحاتها ومبانيها وشوارعها الفسيحة وارصفتها العريضة، ومناطفها الخضراء وبحيرتها التي تبدو طبيعية.
وتقول القصة ، ان البرازيليين انتخبوا عام 1956 ، أبا نهضتهم الحديثة ( جوسيليو كوبتشيك ) رئيسا للبلاد، الذي كان شعار حملته الانتخابية ( خمسون سنة تقدم في سنوات خمس) ، وفور توليه السلطة قام بزيارة المعماري العبقري (اوسكار نيماير ) في منزله ، وباح له بسره فامتد الكلام بينهما بالسيارة الهائمة في شوارع العاصمة القديمة (ريودي جانيرو ) حتى تخلقت الفراشة في ذهن نيماير، فرسمها على الورق ثم بوشر بالعمل الفعلي في الليل والنهار حتى ظهرت برازيليا بكامل تكوينها ، في بقعة قفر منبسطة في أعماق البرازيل الداخلية البعيدة ، وخلال سنوات خمس ستشهد البرازيل تنمية اقتصادية شاملة ، لم يسبق لها مثيل ، ولا تزال قصة كوبتشيك تروى للأجيال في متحفه المشيد تخليدا لذكراه ، وسط عاصمته الجميلة ، وهو الطبيب الطيب ، الذي يقال ان والده كان بائعا متجولا وامه غجرية ، فيا لها من ام عظيمة !
ولأن الشيء بالشيء يذكر ، فان الوزير الاردني السابق طاهر العدوان يطرح فكرة ذات قيمة استراتيجية ، وهي ان يكون موقع المدينة الأردنية الجديدة بعيدا عن عمان ، وتحديدا في منتصف الجغرافيا الأردنية الذي يقع في الجنوب ، فهناك بلاد واسعة حيث يمكن اختيار بقعة قفر جنوب شرق الكرك مكانا للمدينة الجديدة ، بهدف استنهاض الأوضاع في مناطق الجنوب كلها ، وفي عمق تلك الانحاء لن يحتاج المخطط والمصمم والمنفذ سوى للتخيل وتصميم شوارع فسيحة و ارصفة عريضة ومساحات خضراء كافية وأسواق ومسارح ومصانع و مراكز حكومية وبنية تحتية متحررة من الضيق والوعر ، وتنظيم حضري حديث جدا وصديق للبيئة ، وسكان من الأردن كله.
وبخلاف ذلك، ستكون المدينة الجديدة شرق عمان مجرد ضاحية اسكانية أخرى سرعان ما ستلتهمها عمان الكبرى ، مثل كل الضواحي الاسكانية السابقة التي ظن المخططون انها بعيدة عن عمان التي تجاوزتها الى ما بعدها ، انظر ( ضاحية الحسين ، إسكان حانوطيا ، إسكان مرج الحمام ، إسكان أبو نصير ..)
حتى باتت عمان تلوح من الاعالي مجرد إسكان واسع المدى وشاهق العمائر المكتظة بالناس، لا تفصله فواصل تذكر عن مادبا والسلط وجرش والرصيفة والزرقاء والبقعة وشنلر، وهذا هو حال بقية المدن والمخيمات والقرى الأردنية ، التي تنقصها كلها شروط التنظيم الحضري الجيد ، واسوأ ما في الامر ان التوسع العمراني المتوحش والبشع سحق احسن الأراضي الزراعية في المملكة ، ولم تجد استغاثات وزارة الزراعة أي استجابة.
وقد تبنت هذه القضية اكبر صحف البلاد واوسعها انتشارا وافردت لها تقريرا خاصا من عدة صفحات، وحين اطلع السيد مازن الفراية على هذا التقرير حين كان يشغل منصب نائب رئيس المركز الوطني لادارة الازمات ، اعتبره لا يشكل اية خطورة وقلل من أهميته بحكم انه منشور في صحيفة الرأي ، وهذا طبعا هو العنصر الحرج في التقرير الذي يعطيه مزيدا من الأهمية والمصداقية والخطورة ، ويجب ان يجعله محل الاهتمام لا الاهمال!
وخلال جلسات استماع مع عدد من المهتمين خلال التحضير لهذا المقال ، باح العديدون باوجاعهم وهم يرون التربة الحمراء الخصيبة تفترسها الجرافات في كل بلادنا ، وقمم الجبال والهضاب الجميلة تشوهها المحاجر والمقالع والكسارات في مخالفات فاضحة لقانون المقالع والمحاجر، ويشرح المهتمون ما لا يتسع له المقال من قصص مؤلمة، اشدها ايلاما هجرة الادمغة الأردنية الى الخارج للتخلص من عذابات الضمائر المهنية الحية، ويقال في ما يقال ان المعماري الأردني الشهير يوسف الحروب فر مؤخرا الى مالطا هربا من بشاعات العمران في الوطن ، وفيما قضى جهاد جبارة نحبه وهو يصور ما لم يصل اليه احد في الأعماق الأردنية ، لا يزال عمار خماش يصرخ في البرية!.