طالب الكونغرس, للمرة الثالثة بانسحاب القوات الامريكية وجدولة هذا الانسحاب من العراق. وكالعادة يرد بوش بالعناد والمكابرة مع اثارة زوابع سياسية تغطي فشله الاستراتيجي مثل اعلانه بايفاد وزير دفاعه ووزيرة خارجيته الى المنطقة تحت ظل هدف متهالك هو حث حلفاء امريكا على دعم حكومة المالكي التي لم يبق منها إلا روائح الجثة الهامدة المنتنة.خطوة الكونغرس الجديدة لم تأت من فراغ فعلامات فشل خطة بوش الأمنية اصبحت شواهد عالية مثل تمثال الحرية في نيويورك. وجثث العراقيين اليومية تجعل من الحديث عن نجاحات تحققها حكومة المالكي تماماً, كالاكاذيب اياها حول اسلحة الدمار الشامل العراقية. وهذا أمر لم يستطع التقرير الحكومي المرحلي الذي قُدّم الى الكونغرس أن يتجاهله والذي اوجز بان أياً من الاحداث الرئيسية التي ابتغتها خطة بوش لم يتحقق.
ومرة أخرى مع عودة الجدال الساخن الى مواقع القرار الامريكي حول مسألة الانسحاب من العراق تبدو العواصم العربية, وفي مقدمتها الجامعة العربية, في غفلة من امرها, وكأن العراق في النصف الآخر من الكرة الارضية.
من المعروف ان غالبية العواصم العربية تطالب ببقاء قوات الاحتلال الامريكي بحجة ان انسحابها سيدفع البلاد الى حرب اهلية مدمرة. لكن الرغبات الرسمية العربية بدأت تفقد مواقعها تدريجياً أمام مواقع القرار الامريكي, والانسحاب اصبح امراً مفروغاً منه, سواء كان جزئياً أم شاملاً, فماذا ستفعل الدول العربية خاصة المجاورة للعراق امام تداعيات أعباء حرب اهلية متوقعة قد تنجم عنها كارثة انسانية من المذابح وتدفق اللاجئين, الى جانب تدخلات اقليمية ايرانية متوقعة وتركية على الابواب.
حتى الآن لا تبدو هناك مؤشرات على انشغال العواصم العربية بما يجري في العراق وما حوله. فمجرد اعلان بوش عن النية بايفاد غينتس ورايس الى المنطقة فان الارتياح يسود هذه العواصم, لانه ينقذها من حالة الحيرة والعجز والانقسام. لكن غيتس ورايس لا يأتيان من أجل انقاذ حكومة المالكي الغارقة في الفشل والمستنقع الطائفي, ولكن من أجل انقاذ امريكا من ورطتها.
في الاسبوع الماضي حذر السفير الامريكي في بغداد من أن انسحاباً شاملاً سيؤدي الى مجازر رهيبة والى انفراط عقد قوى الجيش والامن العراقي. والحقيقة ان هذا منتظر, فمن غير المنطقي الادعاء بان حكومة جاءت مع الاحتلال وقواتاً أمنية نشأت في ظله, ستنجحان فيما فشلت فيه قوة الاحتلال ذاتها. والواقع ان كثيراً من المخاوف التي تزعم بأن قوات الاحتلال تمنع وقوع حرب اهلية مدمرة وتمنع تقسيم البلد هي تعبير عن مخاوف الطبقة السياسية والأمنية والطائفية التي (فرعنت) على الشعب العراقي بقوة الاحتلال وبطشه. وهذه الطبقة ستتداعى مثل الانهيارات الثلجية بمجرد ان يخرج الامريكيون.
يحتاج العراق الى قمة عربية عاجلة تهيىء لمبادرة اقليمية ودولية على المستويين السياسي والأمني من أجل اعادة (البناء) من جديد, وهذه المرة بعيداً عن هيمنة القوة الامريكية والحاجة ماسة لمبادرة تنقل الملف العراقي الى أيدي مجموعة حكماء عرب وعالميين لإيقاف الكارثة الانسانية الحالية التي هي أشبه بالوباء. وقضية العراق مأساة شعب ووطن لا قضية ديمقراطيين وجمهوريين وكونغرس.