لعل أهم ما علمتني إياه أمي، التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى قبل نحو أسبوع من الزمن، ذلك الإيمان المطلق، عقيدة وممارسة، بأن أساس الوجود في هذه الدنيا يكمن في قول الله تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”، لتشكل هذه الآية الكريمة بوصلة الحياة لديها، ولتكن دون كل ذلك تفاصيل لا تسمن ولا تغني.
كرست حياتها لتحقيق هدف واحد: العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، فكانت لا ترى في دنياها إلا دار سفر لا مقام إلى رحمة الله الأوسع، بنية صادقة صلحت في حياتها ليصلح لها الأمر بعد مماتها بإذن الله.
هي المؤمنة بالله دون خوض في التفاصيل، الراضية بقضائه دون شكوى، الصابرة على مُلِمَّات الحياة دون تذمر، الداعية إلى الخير بمفهومه الأشمل، بعيدة عن نوازع الشر وتعقيدات الفكر وضيق الأمزجة وحسابات الربح والخسارة مهما تعددت المبررات.
ولعل ما تقدم ما دعا كثيرا من علماء الأمة إلى أخذ العبرة من “إيمان العجائز”، ذلك الإيمان اليقيني النقي، البعيد عن فلسفة المسائل والموحد لله بفطرة بشرية سليمة.
لم تكن لتكترث كثيرا بما تملكه من زخارف الحياة الفانية، شعارها في ذلك قوله تعالى: “مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ”.
تعلمت منها أن أعظم عدو للإنسان غروره بنفسه وبما يملك من مال وسلطة وعلم وحسب ونسب، وبأن من تواضع لله رفع مقامه في الدنيا والآخرة، فكانت بذلك ترى في التواضع ميزة الإنسان القوي الذي يستحق احترام وتقدير الآخرين.
كان عظيم الخلق معيارها في تمييز الصالح والطالح من البشر، مؤمنة بذلك بقول الرسول، عليه الصلاة والسلام، “وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ”.
وكان من جميل ما آمنت به قولا وعملا، أن الرزق بيد الله مع الأخذ بالأسباب، فلم تكن لتكترث بما بين أيدي الناس من نِعَم، بل كانت تدعو ربها أن “يرزقها أحسن الأحوال”، تاركة تفاصيل ذلك لحكمة الباري عز وجل. وهي بذلك ممن أحسنوا الظن بالله. وهذا من أعظم تجليات العبادة المخلصة.
علمتني أن الصبر أساس النجاح إذا ما اقترن بالعلم الحقيقي والعمل الدؤوب والسعي بلا كلل أو ملل، فكانت بذلك تشحذ الهمم بأن لا مستحيل مع الإرادة والتصميم، بعيدا عن ثقافة الاستسهال والكسل وهي آفة الأجيال على تعاقبها.
كثيرة هي الدروس التي تعلمتها في مدرسة الأم، ولا يسمح المقام بسردها مجتمعة، إلا أن أعظمها هو ذلك الحب النقي الصادق بين الأم وفِلْذَات كبدها، وهو الأسمى بين جميع أصناف الحب التي يختبرها المرء في حياته، ذلك أنه يقوم على العطاء بلا حدود بقلب صادق وعقل واع ونفس مطمئنة. وهذا ما دفع شاعر الحب والوطن، محمود درويش، إلى اختصار الأمر بجملة واحدة بقوله الخالد: “أمي: لن أسميكِ امرأة، سأسميك كل شيء”. ولنا من بعد أمهاتنا الصبر والسلوان.
"الغد"