متطرفو إسرائيل .. داخل الحكومة وخارج السيطرة
حسين بني هاني
11-01-2023 03:03 PM
جملةٌ سياسيةٌ ملفتة وهامة وجديدة، تلك التي جرى رصدها عشية تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة ، تتحدث عن مبادئ الحكومة التوجيهية الاساسية ، تقول فيها الحكومة إن " للشعب اليهودي حقٌ حصري لا جدال فيه في جميع أرض إسرائيل"، جملة أقحمها المتطرفون عنوة في المتن، مسنودة بنص توراتي يتحدث عن "يهودا والسامرة " ، ألغى معها ذلك البيان رسميا أي ذكرٍ يتعلق بالفلسطينيين "الأرض والشعب " مكتفيًا بعبارة يتيمة تتحدث عن سعي إسرائيل للسلام، تبحث عنه خارج حدود فلسطين التاريخية، جملة أعتقد انها لا تروق لكثير من الاسرائيليين المعتدلين الذين يؤمنون بالدولة المدنية وتربوا في أحضان الديمقراطية الاسرائيلية.
يحدث هذا عبر موجة إنكفاءٍ سياسي، حسب وصف اليسار الاسرائيلي ، يقوده هذه المرة ، غلاة المتعصبين الصهاينه ، أولئك الذين يتحدثون عن السياسة بلغة الثأر من هذا اليسار ، الذي أستبعدهم مدة طويلة عن السلطة ،والمُمَثّلين الآن بقوة داخل الحكومة ، ويريدون بناء دولة يهودية دينية ، بعد تلك المدنية التي أسسها واقامها اليسار الاسرائيلي ،والذين لا تجد بينهم من احد يقبل ، ان يرى على أرض فلسطين التاريخية ، أي معلم يدل على وجود هوية قومية أخرى ، فوق هذه الارض ، حتى لو كان بعض معالمها مدفونًا تحت التراب ، كالاعتداء الأخير الذي دنّس فيه المستوطنون ، بإيعاز من ممثليهم في الكنيست ، مطلع هذا العام ، المقبرة المسيحية البروتستانتية في القدس المحتلة ، محطمين صلبانها وشواهد قبورها والدوس عليها ، كما وثّقته كاميرات المقبرة ، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للتعبير عن رفضها وقلقها ،من استهداف المواقع الدينية لأبناء المدينة المقدسة ، بل جعل مندوبة ألرئيس بايدن لمعاداة السامية ،تدين بشدة ذلك الفعل ، وتصفه بانه مشين "وعمل حقير" .
يدرك يسار إسرائيل ووسطه، احفاد الآباء المؤسسين للدولة العبرية ، حجم وعمق التحول نحو الانغلاق ،بعد الانتخابات الأخيرة ،وانزواء اليمين داخل قصص التاريخ اليهودي ،الذي طرأ على المجتمع الاسرائيلي ، ويتحسرون على فقدان ملامح ديموقراطيتهم ، بعد تلك التعديلات القانونية ذات الصبغة الدينية ، التي ستطال حريات الناس حال إقرارها ، وباتوا يخشون نتائج هذا الانزياح القاتم على سمعة ومستقبل إسرائيل ، انزياح يخرج بنظرهم عن أسس ومبادئ ألدولة التي تم تأسيسها عام ١٩٤٨، تلك التي عقد قادتها في حينه ، رباطا وثيقًا بين السياسة والأمن ، وتناسل من رحم جيشها وسلطات امنها معظم قادة إسرائيل السياسيين ، تاركين العقيدة لرجال الدين ، وفق تشريع عفا هؤلاء ،وكل الدارسين والمتخرجين من المدارس الدينية (وهم كثر ) ، من الخدمة العسكرية ، ونثر بينهم دون قصد ، الشقاق والاختلاف داخل المجتمع الاسرائيلي. ذاك رباط وثيق ، كان اليسار الاسرائيلي قد استلهمه، مما ورد في كتاب هيرتزل عن ألدولة اليهودية التي كان يحلم بها ، والتي قال عنها ان " دور الحاخامات فيها هو الشحن والدعم الروحي لليهود ،بالأساطير التوراتية ، وانه يجب حصر رجال الدين داخل المعابد، مثلما سنحصر جيشنا داخل حدود معسكراته، وان كلاهما يجب ان لا يتدخلا في شؤون ألدولة ، كي لا يجلبان عليها صعوبات في الداخل والخارج "، نظرة فيلسوف تلك التي حذّر منها ،لبناء وطن يجمع شتات اليهود مثلما كان يحلم ، لا تكون نهايته على هذه الشاكلة التي يراها بعض قادتهم اليوم ، تحذيرٌ بدا مثل رصاصة يهودية أطلقت في القرن التاسع عشر ، واستقرت عندهم اليوم في القرن الواحد والعشرين ، ودوى صوتها عاليًا مثلما حذّر هيرتزل، بعد ان صعد كل المتعصبين من محراب المعابد ،الى منابر الكنيست والحكومة .
بقيت عقيدة اليسار تلك قائمة حتى وقع الاحتلال عام ١٩٦٧، حين برز جيل جديد من المستوطنين ، تتحدث عنهم بعض النبوءات التوراتية ،وشقّوا طريقهم بالتدريج الى الضفة الغربية، وانتقلوا ومعهم غلاة المتطرفين ، من أطراف هامش السياسة الى مراكز السلطة ، في المؤسسات السياسية والعسكرية ، وبوتيرة صاعدة ، خاصةً بعد اغتيال رابين.
هنا يقرّ بعض المتنورين الاسرائيليين ، بعمق حالة التشظي الثقافي والاجتماعي والسياسي ، بين اليهود في إسرائيل ، وبشكل يصعب إصلاحه ، وان ذلك بالنسبة لهم ينذر بانقسام كبير داخل المجتمع ، وسيطال أروقة وأعمدة الحكم ولو بعد حين ، ويخشى بعضهم أنتشار الداعشيه بينهم ، بأعتبارها فكرة بل مرض سياسي ، ينتقل بالعدوى ولا يقتصر على دين دون غيره ، ويعترف المؤرخ الاسرائيلي "موشيه زميرمان" ،بوجود صراع مرير داخل إسرائيل اليوم ، بين "يهوديتين" حسب وصفه ، تلك التي جاءت الى فلسطين من ألعالم المسيحي ، والأخرى التي جاءت متأثرة بالمجتمعات الاسلامية ، وحسب الحاخام هيرش جاكوب ، فأنه " لا يوجد مجال واحد في إسرائيل ، لا يختلف فيه الطرفان " ، اذ هاجر يهود الشرق حسب رأيه ، إلى فلسطين "لأسباب دينية ، بينما جاء الغربيون لاسباب صهيونية" ، فقد جاء الشرقيون كما يقول الدكتور عمر كامل في كتابه اليهود ألعرب في إسرائيل ، إلى فلسطين من اجل الصلاة ، فيما جاء الغربيون للاستيطان ، وهم وحدهم الذين نظموا البيت الاسرائيلي عام ١٩٤٨، وقالوا ان من نظّم البيت هو الأحق بالسيطرة عليه ، وهذا بالضبط ألذى اثار حفيظة المتطرفين ، المليئة قلوبهم بالثأر ، ونجحوا فيه مع المستوطنين بتغييره عبر صناديق الاقتراع ، أولئك الذين لم يحصلوا خلال حكم العلمانيين ، على اكثر من جوائز ترضية ، في موقع هنا او موقع غير مؤثر هناك.
ختامًا ، لقد أصبح التنافس اليوم ، أو بالاحرى الصراع المكشوف للعيان ، محصور بين نُسّاك معابد يتلون التمائم في محراب الكُنس (جمع كنيس) ، ورجال سياسة يبسطون مصالح ألدولة في محراب السلطة ، تلك السلطة التي قفز عليها اليوم ، متطرفون توراتيّون سيجلبون السخط ألعالمي على إسرائيل ، قادها قبلهم نخبٌ مثّلت علمانية ألدولة ، حافظت واحترمت كل طقوس اليهود الدينية ،في وقت أضحى يقودها الآن ،تلموديون قادمون من بطون الماضي السحيق ،يمثلون اصحاب الشعور المجدولة ، المنسدلة على أكتاف رجال يعتمرون قبّعات سوداء قاتمة ،ما عادوا يثقون باليسار لحماية الدولة ،ولا يقبلون اليوم في معادلة الحكم ، أن يكونوا خارج السلطة ، بل خارج السيطرة.