منذ أن أفرزت انتخابات الكيان الصهيوني المغتصب الحكومة الأكثر تطرفا وعنصرية في تاريخها المتطرف بأكمله، انتبه الأردنيون إلى أن الخطر الآتي من غرب النهر يشكل هذه المرة تهديدا حقيقيا، يمكن أن يعطل كثيرا من الرؤية الأردنية الثابتة، والتي تتكئ على حل سلمي عادل وشامل، يقود إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة على حدود الرابع من حزيران، وعاصمتها القدس الشرقية.
لكن الخطر لا يتوقف عند هذه الحدود، بل يتعداه إلى الداخل الأردني، والمتأتي من عدد كبير من الشواهد، مثل إقرار يهودية الدولة، والدعوات المتصاعدة لإعادة احتلال الضفة الغربية، والتمسك بأن “القدس الموحدة” عاصمة للكيان، وأيضا دعوات أخرى أكثر عنصرية، مثل دعوات طرد الفلسطينيين من كامل ترابهم الوطني، سواء في الداخل الفلسطيني أو الضفة الغربية.
كل ذلك ألقى بظلاله على الأردن؛ نظاما سياسيا وشعبا، فانبرى فيه كثيرون لتفنيد أبعاد خطر تشكيل حكومة العنصري المتطرف بنيامين نتنياهو على الأردن، متناسين أن الأردن اضطر للتعامل مع هذا المتطرف على مدار سنوات طويلة حاول خلاله إلحاق الأذى بالأردن، غير أنه لم يحقق فوزا حقيقيا في أي منها، بل على العكس من ذلك، ففي مرات كثيرة كانت الهزيمة عنوانا لمغامرات الفاسد نتنياهو.
بسبب طول الصراع بين الأردن واليمين المتطرف بقيادة نتنياهو، تكونت لدينا خبرات كبيرة في سلوك هذا الكيان العنصري، فقد أصبحنا نعلم أنه لا يقيم أي وزن أو احترام لأي اتفاقيات إقليمية أو دولية، كما لا يبالي بتحذيرات عالمية، وهو غير معني بالنتائج الكارثية التي قد تحل بالمنطقة نتيجة إجراءاته الأحادية المخالفة لجميع القوانين.
كما قد ينسى بعضهم المكانة الخاصة التي يحظى بها النظام السياسي الأردني في العالم أجمع، والصدق الذي يتمتع به صوته المعتدل، وتحذيراته الموضوعية الواقعية من أن تأزيم المنطقة أكثر مما هي مأزومة سيقود حتما إلى الانفجار الذي قد يؤدي إلى حريق كبير يلتهم دول المنطقة بأكملها.
الإدانة الدولية الواسعة في مجلس الأمن، والتي عبرت عنها كلمات الدول ضد اقتحام وزير الأمن الصهيوني لباحات المسجد الأقصى، كانت باكورة المواجهة المتجددة بين مغامرات نتنياهو، وبين الدبلوماسية الأردنية الهادئة التي حولت الساحة الدولية بأكملها إلى ملعب لها، وخاضت الصراع بأناة وهدوء، ولكن بثبات في الموقف والرؤية، وإصرار على تعرية سياسات هذا الكيان العنصري.
في الأردن، نشعر جميعنا بالفخر من الثقة العالية والاحترام اللذين يحظى بهما بلدنا، وهي ثقة تم اختبارها على مدار مائة عام من عمر هذه الدولة التي نشأت في منطقة لم تهدأ منذ أكثر من ألف عام، بينما ظل الأردن عبر تاريخه ثابتا على مواقفه، يمثل صوت العقل والاعتدال، لكنه في الوقت نفسه يمتلك مخالب قوية يستطيع من خلالها الدفاع عن مصالحه ومصالح أشقائه، كما يمكنه توجيه ضربات مؤلمة لأعدائه وخصومه.
بالنسبة للصراع مع الكيان المغتصب، فهو أمر لا خلاف فيه، يجتمع الأردنيون عليه؛ قيادة وحكومة وشعبا، وأي محاولة للعبث بأمن الأردن ومصالحه فإن المواجهة لن تقتصر على الطابع الدبلوماسي، بل ستتعدى حينها إلى انخراط كل أردني فيها. هذه الحقيقة يعلمها الاحتلال جيدا، ويضعها في جميع حساباته.
ما نزال نتذكر حتى اليوم تجربتنا مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وصهره المتغطرس جاريد كوشنر، ومن خلفهما قوى يمينية عديدة، لم تترك أوراق ضغط إلا واستخدمتها ضد الأردن لإجباره على القبول بما سمي حينها “صفقة القرن”، ورغم الوضع الاقتصادي الأردني الحرج، والتحولات السياسية العربية والإقليمية إلا أن التمسك بالثوابت ظل عنوانا لسياستنا، فذهبت “الصفقة” وأصحابها أدراج الرياح.
نثق بسياستنا التي يقودها جلالة الملك، وبقوة الدبلوماسية الأردنية، كما نؤمن أن المغامرين مصيرهم الزوال والانطفاء والنسيان.
(الغد)