بين الحالة المطلبية الأردنية الأخيرة، ووتيرة الاستجابة الحكومية البطيئة وغير المدروسة.. ثمة مستثمرون سياسيون كثر يربكون المشهد، ويخلطون الأوراق، ليس لديهم أي نهج سياسي واضح، ولا يمكن التنبؤ بمواقفهم أو ردود أفعالهم، تجدهم حيث الفوضى والبؤر الساخنة، يعملون على إحمائها، يستثيرون عواطف الناس، ويشحنونهم بمشاعر سلبية ضد الدولة ومؤسساتها، مستثمرين حالات الفقر والعوز والبطالة، وارتفاع الأسعار، وما لبثت مواجهة مثل هذا الأمر وغيره من الأمور المشابهة تتم ضمن سياق من الاستقطاب العشائري الحاد في بعض المشاهد الموثقة على وسائل التواصل الاجتماعي.
إن غياب الرمزية العشائرية التي تحظى بدعم الشارع وتأييده بدلا من انفصالها عنه فكريا وجفرافيا وزمانيا، قد أدى إلى الدخول في حالة من التنافس البغيض مع المعبرين عن قلقهم على الأوضاع المعيشية والاقتصادية، الباحثين عن فرص للعيش والحياة الكريمة ؛ ذلك التنافس الذي توجهه بعض القيادات والنخب العشائرية كما لو كان استفتاء على ما هو أكثر من مجرد سياسات حكومية تحتمل الخطأ والصواب إلى استفتاء على الدولة بجميع مكوناتها، وهذا لعمري أمر في منتهى الخطورة؛ لأن الدولة ومكوناتها ثابت وطني وشرعي لا يقبل الجدل.
إن دخول بعض الزعامات العشائرية في حالة اشتباك طبقي فوقي مع عامة الناس يفتقر إلى الحكمة، ويعمق حالة التباين، ويزيد من حدة الاحتقان، ويكرس مظاهر الاصطفاف والاستقطاب الحاد الذي بدأت تشهده بعض الاجتماعات العشائرية في الآونة الأخيرة، حيث بدأت بعض التجاذبات السياسية تنتقل من مكانها الصحيح إلى القبيلة والشارع، وبدأنا نشاهد ونسمع بيانات من مكون عشائري طبقي معين، وبيانات مضادة من مكون اجتماعي مختلف من نفس القبيلة.
إن هذه الحالة غير مسبوقة من قبل، وهي غير صحية البتة، وتعكس أزمة حقيقية في تلك المنطقة الاجتماعية، تتمثل في عدم القدرة على جمع العناوين القبلية الفرعية تحت عنوان جامع مانع للأشتات والفروع، أقصد تلك الحالة المتمثلة بالدخول في حالة من التنافس والصراع بين القواعد العشائرية المتمثلة بالسواد الأعظم من الناس، وبين القيادات والرموز العشائرية الراسخة بدلا من الاحتواء الإيجابي وبناء الرؤى والتطلعات الوطنية المشتركة، فذلك أمر لا يدعم الاستقرار والسلم المجتمعي على المدى المتوسط والبعيد.
ولعل القيادة العشائرية الحصيفة لا يجب أن تدخل مع قواعدها الشعبية في حالة عراك وتنافس حاد يهدف منذ اللحظة الأولى إلى تحقيق الانتصار بالأسلحة المحرمة، من خلال الفرز المقيت بين أنصار للدولة وأضداد لها، فهذا الأمر ينم عن حرج في الصدور، وعدم قدرة على المرونة والحيوية والحوار، فنحن وسائر مؤسسات الدولة، ومن ضمنها الحكومة ننتظر منهم أدواراً أكثر حيوية وأبوية للحيلولة دون تحول معارضي السياسات الحكومية العامة إلى معترضين ومعارضين للدولة، فالولاء للدولة أمر واجب عقلا وشرعا.
والحقيقة أن حالة التنافس المحموم بالمعنى السابق تشبه تماما تكفير بعض جماعات الإسلام السياسي لمعارضيها، كما أن تبني هذه القيادات العشائرية التام لمواقف الحكومات دون خلق حالة من الحوار حولها يضعف مصداقيتها، ويضعها في مواجهة سلبية مع الناس، ويخلق مواقف مضادة أكثر صلابة وتشددا تؤدي إلى ما يعرف بصراع الإرادات، ولعلنا في غنى عن ذلك كله، فكسب القلوب خير من كسب المواقف في هكذا مواقف.
إن فقدان بعض القيادات والزعامات العشائرية التقليدية دورها الأبوي المتسامح الضاغط بكل محمولاته الأدبية والاجتماعية، والأخلاقية والقيمية ودخولها في حالة صراع لإثبات الذات أمر ربما يشعر تلك القيادات بالرضا والنشوة العابرة، لكنه في حقيقة الأمر لا يخدم الدولة، ولا القيادة ولا الحكومة، بل إنه يأكل من رصيد الحالة الوطنية العامة، ولا يدعم التماسك المجتمعي، ويقلقل من حجم الثقة المتبادلة، ويحول هؤلاء القادة العشائريين إلى خصوم لمجتمعاتهم، ومن ثم يفقدون دورهم وقدرتهم على التأثير في بناء الرأي العام حول القضايا الوطنية، الأمر الذي قد يصبح معه هذا الدور عبئا إضافيا على السياسات الحكومية العامة.