في بيت رئيس وزراء سابق، وكان خارج موقعه، اعترف الرئيس يومها أن أكبر خطأ ارتكبته الحكومات في الأردن، هو عدم حماية الأردنيين في مجالات محددة وتركهم لتغييرات جارفة.
الرئيس الذي شرب حليب السباع بأثر رجعي قال إن التعليم في المدارس والكليات والجامعات كان يجب ان يبقى مجانيا بالكامل، اضافة الى قطاع الصحة وتلقي العلاج، وهو هنا يعرف ان التعليم في المدارس الحكومية ما يزال مجانيا على تراجع جودته، ويعرف ان العلاج متوفر بشكل بطيء وصعب في مستشفيات الحكومة، التي يحتاج المرء الى ستة اشهر احيانا فيها لموعد مع طبيب.
مناسبة هذا الكلام ان موازنات الحكومات المتتالية في الأردن، باتت مثقلة، وتريد ان تتخلص من اي اعباء، ولو أثير هذا الكلام اليوم، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولو قلنا لأي حكومة سابقة، او حالية او لاحقة، ان التعليم في الجامعات الحكومية يجب ان يكون مجانيا مثل حال المصريين والسوريين وغيرهم، لما قبلت اي حكومة هذا الكلام، لأن حكوماتنا غارقة في الديون، والمؤسسات الدولية تريد فرض مسارات بالتخلص من اي حماية يتم توفيرها للقطاعات الشعبية، في سياقات ترشيق الانفاق، وسداد الديون، وخفض العجز، والتخلص مما يسمونه الدعم للمواطنين.
ربما يبدو الكلام اليوم، مجرد ضرب من الخيال، لكن تخيلوا رعاكم الله، لو ان العائلات الأردنية لا تحمل اعباء التعليم الجامعي مثلا، وتتلقى علاجا جيدا، وهذان جانبان يسيطران على اغلب مشاكل العائلات، بما يحملها اعباء تؤدي الى الاستدانة، هذا اذا توفر من يقدم الدين اصلا.
موازنات الأردن اليوم مستنزفة لدفع الرواتب، والرواتب التقاعدية، والقروض وفوائد القروض، وهذا يعني استحالة المطالبة بمجانية التعليم الجامعي، وتأهيل قطاع التعليم بشكل يرفع جودته بدلا من اجبار كثيرين على ارسال ابنائهم الى المدارس الخاصة، كما ان الاستحالة تتبدى بالقطاع الصحي، حيث تعلن اي حكومة موجودة ضيقها علنا من فواتير العلاج، والاعفاءات الطبية.
هذا هو واقع الحال، لكن تغييره قد يبدو ممكنا بشكل جزئي، ومتدرج عبر ايجاد اموال لتأهيل قطاع التعليم والصحة، بأي طريقة كانت، خصوصا، ان منحا كثيرا تدفقت الى الاردن، تم توظيفها في قضايا كثيرة، لكن اغلبها لم يذهب لتأهيل وتطوير التعليم والعلاج، كما ان اعادة النظر بكلف التعليم وخفضه على الاقل، بشكل مبتكر، وتحسين مستويات العلاج، وطبيعة الاشتراكات الصحية والاقتطاعات لتطوير الخدمات الصحية، قضايا لا بد من التوقف عندها.
أبناء البلد يقولون صراحة أن لا مشاكل في حياتهم في الأردن سوى المشكلة الاقتصادية، من بطالة وفقر وغلاء، وصولا الى مشاكل كلف التعليم والعلاج، والاستسلام هنا لمنطق الارقام فقط، امر سلبي، فما هي المكافأة التي يأخذها الإنسان في وطنه، او قل ما هي حقوقه التي يحوزها اذا كانت كلف التعليم والعلاج مرتفعة جدا، والدفع نحو الناس بشكل اجباري نحو القطاع الخاص، على اهميته، هو المسرب الوحيد المتاح، في ظل تراجعات الدخول والمصاعب التي يواجهها الكل.
الشعوب لا تدار بالارقام فقط، فالحقائق الاجتماعية والانسانية، اعلى درجة في قدسيتها من الارقام، وحسابات المسؤولين الاقتصاديين والماليين، الذين لا يحللون بعين نافذة ماذا يجري؟.
القصة هنا ليس قصة التلاوم، ولا تحميل المسؤوليات، ولا.. ربما السؤال الذي قد يوجه لذات الرئيس عن السبب الذي منعه هو ايضا من تغيير هذا الواقع، لأن الاجابة محددة، بكونهم لا يستطيعون التلفت يمينا ولا يسارا، تحت وطأة الارقام والقروض وفوائدها وغير ذلك.
الارقام كائنات لا قلب لها، ولا اخلاق ايضا.
(الغد)