قُدسيَّة الدولة وشُعوبيَّة الحكومات
وليد شنيكات
01-01-2023 11:26 AM
في علاقة الأردنيين بدولتهم هناك شيء كثير يمكن أن يقال، وهي مسيرة طويلة تشكلت عبر عقود وتسطرت بالدم والدمع كان عنوانها الرئيس "الأبوة" و"الحنو"، وارتسمت معالمها الناصعة رغم ضيق الحال وضعف الإمكانات التي تتوافر لدول أخرى، غير أن علاقة تلك الدول بشعوبها ظلت محكومة بالمنفعة في غالب الأمر، كالتاجر والزبون ولم تصل إلى مرحلة العلاقة بين الأردنيين بدولتهم التي تدشن ألفيتها الثانية نحو مستقبل ملؤه الأمل والتفاؤل.
أيضاً اتسمت هذه العلاقة بحالة وجدانية غير مسبوقة رسمت أيقونة وطنية خالدة وخاصة في المنعطفات والتقلبات المفاجئة التي لم يعتد عليها الأردنيون، ولعل "تفجيرات عمان" وقضية "الفتنة" وحتى واقعة "الحسينية" وغيرها من الأحداث التي مرت بها البلاد كانت محطات أليمة، بيد أنها أعادت رسم المشهد الوطني في بعض تفاصيله على عناوين في غاية الأهمية لجهة ترسيخ العلاقة الروحية بين المواطن ودولته.
الولاء لا يُصنع ولا يؤجر أو يُستأجر، وإنما يولد مع الإنسان بالفطرة ويشق طريقه في مفاصل الدولة، كارتباط الجندي بسلاحه وتعلق الأم برضيعها واشتياق السنابل الخضر لأشعة الشمس، والناسك العابد بربه، والسواد من العين في محجرها كلما هيأ له، فالعشق الحقيقي لا يموت ولا ييبس، مثل الذهب الصريح يزداد قيمة وبهاء كلما طال عُمره وزاد وزنه.
الدولة لا تسعى لتحقيق النجومية والبحث عن الفرص والمكانة؛ فهي ماثلة في حالة "التوأمة السيامية" مع الشعب، والتفاعل الإيجابي في صناعة الغد الذي نرنو ونأمل، بعكس الحكومات التي تستمد بقاءها وديمومتها من رضا الشعب، برغم الشعارات الرنانة والخطابات الطنانة التي يطلقها رؤساء الحكومات بأنهم لا يبحثون عن الشعبية أو ترحيل الأزمات، وهذا في غالبه غير دقيق وتعوزه المصداقية.
للأسف، معظم حكوماتنا لا تقرأ العلاقة بين الشعب والدولة من منطلق المصلحة العليا وإستراتيجية الدولة مع رعيتها، دائماً الشعوب هي الجذر في بناء الدول، وهي أصل الشجرة وما عداه فروع، فالحكومات ترحل مهما طال عمرها والدولة والشعب باقيان وكل منهما يسند الآخر ويعظم من شأنه وإن شاب العلاقة في بعض المراحل شيء من الفتور، وهذا قد يكون من لوازم البناء الوطني وتجديد دماء الوصل وبث العزيمة التي تتنفس أوكسجين البقاء والاستمرارية من أنفة وكبرياء الشعب.
صناعة الشعبية والنجومية في الإدارة العامة والعمل الحكومي مسألة تحتاج لمقومات وروافع وطنية ليس الحصول عليها بالأمر السهل، وإذا تحققت ففي الغالب سيكون عمرها قصيراً ولا تبلغ نهاية الطريق بسلام بسبب المطبات التي ستواجهها ومن بينها "الأنا" المستحكمة في ذهنية الحكومات وضعف أدوات النجاح في تحقيق الأهداف العامة.
قيام رؤساء حكومات أو وزراء مثلاً بسلوكات تدل على "البساطة والتواضع" والقرب من أحوال الناس في الجانب النظري ليست دائماً الطريقة المثلى للوصول إلى قلوب هؤلاء برغم أهميتها، ولا يجب أن يفهم ذلك بأنه كفيل بتعديل مزاج الجمهور، وخاصة إذا كانت هذه الممارسات تأتي في أوقات متأخرة وسياقات صعبة بعد اتخاذ قرارات لها تأثيرات سلبية على معيشة المواطنين وحياتهم اليومية، وهنا سيكون مردود هذه الأفعال أكثر سوءًا على مستقبل العلاقة بين الطرفين، ويفسر أنها نفاق أو تهدئة فات أوانها وقد تؤسس لقطيعة أو تراكم خلافات نحن في غنى عنها.
أساليب التذاكي هذه لم تعد تنطلي على الناس وفيها ضعف الحجة وعوز الحكمة، وتحوم حولها الشكوك من أولها إلى آخرها؛ لأن الناس تريد طحناً وليس "جعجعة"، وكما يقول المثل: "لا يخدعك هدوء المقابر فليس كل الأموات في الجنة"، المهم أن ننتبه لتصرفاتنا وأفعالنا حتى لو فيها شيء من الإيجابية الظاهرة فالمهم ألا يؤثر ذلك على علاقة الناس بدولتهم قبل كل شيء.
في مناسبات عديدة يتم تسجيل مآخذ على البعض عندما تصدر عبارات فيها إساءة للدولة، مثل الدولة لم تقدم لنا شيئا أو الدولة "تعبانة" وغيرها من العبارات غير اللائقة، وهذا يحدث في أوقات تكون عصيبة على الجميع، وخاصة عندما تلجأ الحكومات إلى قرارات اقتصادية مؤلمة، فتجد أشخاصًا يتفوهون بتلك الكلمات وهم ربما لا يميزون بالفعل بين مفهوم الدولة والحكومة في المنزلة والوصف عند إطلاق هذه الأوصاف المسيئة، وهؤلاء بالطبع لا يمثلون الجميع أو ظاهرة، فهي نتيجة أسباب ومرحلة سرعان ما تزول وتجد الناس من جديد تلتف حول راية الدولة، وهذا يبدو أكثر وضوحًا عندما تسجل حوادث أو تتعرض البلاد لأي محاولة من شأنها أن تعكر صفوها أو تنال من هيبتها، وعندما وقعت الأحداث في الحسينية وعلى الحدود الشمالية رأينا كيف تجسدت حالة التلاحم الوطني بأبهى صورها.
نحن الأردنيون لنا خصوصية في لغة "الالتحام الوطني" ولا سيما في أوقات الشدائد والملمات، وهذا يرجع في أساسه إلى أسباب في غاية الأهمية، أولها أن عيوننا تفتحت على مفهوم "الدولة الأم" التي لا تقسو بقدر ما تحنو، وثانيها أن النظام لا يؤمن بالحلول المفصلية أو الدموية في التعاطي مع الأحداث، وهذا ما يعزز حالة التلاحم مع الشعب، ورأينا كيف كانت الطريقة في التعامل بأسلوب حضاري مع الاحتجاجات في سنوات سابقة بخلاف دول أخرى، وثالثها أن المؤسسة العسكرية تعكس طبقة اجتماعية وعشائرية عريضة، ما يجعل حالة التعاضد والشراكة في كامل أوجها، فضلا على أن هذه المؤسسة ليست طائفية أو فئوية أو منحازة لغير العرش.
ينبغي إعادة النظر في التعاطي مع ثنائية "الدولة والشعب"، لجهة تعظيم هذا المنجز المقدس وحقنه بكل ما يعمر عمره ويحفظ له مصيره حتى لا نصل إلى مرحلة استنزاف هذه العلاقة أو وأدها، بسبب أخطاء هنا أو قرارات اعتباطية هناك أو تصريحات متهورة واستفزازية في جوانب أخرى.