حوار الملك مع بيكي أندرسون
د. جواد العناني
31-12-2022 04:03 PM
أجرى جلالة الملك عبدالله الثاني حواراً في حدود 15 دقيقة مع المذيعة المعروفة بيكي اندرسون مقدمة برامج Connect the world، والذي تقدمه على شبكة الـ (CNN) الأمريكية من أبو ظبي عاصمة دولة الامارات العربية المتحدة. ومن الواضح ايضا أن المقابلة جرت على ضفاف نهر الأردن بالقرب من موقع المغطس حيث عمد المسيح عليه السلام قبل أكثر من الفي سنة.
وقد سجل البرنامج إما أثناء قمة بغداد التي انعقدت في قصر الحسين للمؤتمرات في البحر الميت، أو بعدها بقليل، بينما بثت الحلقة على شاشات التلفزة الأردنية يوم (25) من شهر كانون الأول (ديسمبر)، وجاء بثها من المحطة الأمريكية متزامناً مع إعلان رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد بنيامين نتنياهوا انتهاءه من تشكيل حكومته، ونيته تقديم بيانه للكنيست وطلب التصويت بالثقة على الحكومة.
كل هذا جاء جزءاً من الإعداد المدروس لاخراج الحلقة، بدءاً من لباس جلالة الملك (الباس الذكي وغير رسمي) أو ما يسمى بالانجليزية Smart Casual والمكون من بنطلون وقميص بأزرار وجاكيته من لون غير لون البطال (sport)، وطريقة دخول جلالته إلى منطقة التصوير. ومصافحته لمقدمة البرنامج ومخاطبته إياها باسمها الأول (Becky)، وأخيراً اختيار الموقع المطل على منطقة المغطس.
وقد أجري هذا الاعداد الدقيق لكي تصل الرسالة من جلالة الملك إلى المشاهدين في الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب بأكمله والعالم كله، أن المقابلة في الأساس مصممة للمشاهدين الخارجيين.
وقد تضمنت المقابلة ثلاثة محاور رئيسية، المحور الأول انصب في رأيي على الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وأوضح الملك أن الشعب الاسرائيلي قد اختار حكومته، واختار أن يكون نتنياهو رئيساً لها بعد غياب لم يدم إلا حوالي (16) شهراً منذ تشکیل حكومة كل من "نفتالي بنيت". ومن بعده "يائير لابيد"، وترك جلالته الباب نصف مفتوح للحوار مع نتنياهو إذا هو أراد ذلك، والعلاقة الشخصية التي يجري الحديث عنها إعلاميا وتوصف بانها غير ودودة لن تؤثر على موقفنا، فنحن نتعامل مع المصالح العليا لوطننا الأردن مع القيادة التي اختارها الشعب الاسرائيلي.
المحور الثاني الذي ابرزه الملك هو ان الأردن لا يقبل من هذه الحكومة الاسرائيلية أمرين: الأول هو السعي لالغاء الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية. ولا نقبل انخراط الحكومة الاسرائيلية في أي مفاوضات لتطبيع العلاقات مع الدول العربية تعرض فيها اسرائيل على أي دولة أخرى ان تحل مكان هذه الوصاية التاريخية، والتي تعود إلى عام 1924، ومنحت للشريف الحسين بن علي قبل انشاء إسرائيل بحوالي ربع قرن - والأمر الثاني هو أن تقوم الحكومة التي ينادي المتطرفون بها اجراء ترانسفير للفلسطينيين عبر الأردن وإليه، أو اتباعهم سياسات لجعل الأردن وطنا بديلاً، أو السعي لمنح أهل الأراضي الفلسطينية الجنسية الأردنية ويبقون مقيمين في الأراضي المحتلة تجنباً لصدور احكام دولية على اسرائيل بأنها دولة فصل عنصري.
وفي هذين الأمرين كان جلالته يضع الخطوط الحمراء التي لن يسمح بتجاوزها، وأنه جاهز مع الأردن لمواجهة أي احتمال، ولو كان الحرب، ويبدو أن هذا الموقف الأردني قد لاقى كل الاهتمام من الصحافتين الغربية والدولية، ومن الواضح أن جلالته لم يدع إلى الحرب، ولكنه يطبق ما قاله أحمد شوقي في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
الحرب في حق لديك شريعة
وَمِنَ السُمومِ الناقِعاتِ دَواءُ
أما النقطة الثانية. تحدث جلالته عن الموضوع الذي ورد سابقا في خطاب العرش أمام مجلس الأمة الأردني عند افتتاحه للدورة العادية الثانية والتي اكد فيها أن غياب الأفق لأي حل سياسي للقضية الفلسطينية لا يعني حرمان الشعب الفلسطيني من الاستفادة اقتصادياً من المشروعات الاقليمية التي يشارك فيها الأردن. أما حديثه مع السي إن إن، فإن جلالته أكد ان هذه المشاريع الاقليمية قد تشمل اسرائيل، ولكن الفائدة يجب أن تعود ايضاً على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.
وهذه نقطة هامة في سياق حديث جلالته للغرب في ندوة كهذه. وقال جلالته نحن نعلم أنكم تضغطون علينا من أجل الدخول في مشاريع اقتصادية كبرى تشمل الأردن مع بعض جيرانه العرب، ولكن اذا اقتضت الظروف أن تكون اسرائيل ذات علاقة بهذه المشاريع بصفتها الدولة القائمة بالاحتلال، أو الدولة المشاركة كما فعل الأردن في الغاز وفي تبادل الطاقة المتجددة بالمياه، فإن هذه المشروعات يجب أن تمتد إلى منطقة السلطة الفلسطينية ليستفيد الشعب الفلسطيني على أرضه.
وهكذا وازن جلالته بين اللغة المتشددة حيال قضايا القدس والترانسفير من ناحية والانفتاح الاقتصادي المدروس، شريطة أن يكون الفلسطينيون تحت الاحتلال جزءاً أساسيا منها، وقد سبق أن اتفق الأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية على قناة البحرين لتنفذ بتعاون ثلاثي مشترك، ولكن اسرائیل هي التي عادت ونقضت الاتفاق.
أما المحور الثالث، والذي لاقى اهتماماً كبيرا من الغرب، والذي اعتبره انا انجازاً كبيراً في مفهوم الاستفادة من الاعلام الغربي والدولي هو تركيز جلالته على البعد المسيحي حضارياً وثقافياً وديمغرافيا وأمنيا، وقد سجل جلالته في هذا الأمر عدداً النقاط الهامة:
الأولى أن المسيحيين هم على أرضنا في الأردن وفلسطين منذ المسيح عليه السلام، والذي تعمد في هذا الجانب الشرقي من نهر الأردن، وأن الأردن يحترم مكان المغطس، ويعتبره ثالث أقدس الأماكن المسيحية. ولذلك بدأ الأردن بتعمير الموقع، وتشجيع زيارته، واحترام قدسيته. والسماح لکل الطوائف المسيحية ببناء كاتدرائيات بالقرب منه.
والأمر الثاني هو أن الهاشميين أصحاب الوصاية على الأماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية يدافعون عنها، ويريدون ممارسة العبادات والمناسبات فيها بحرية، مقابل قیام اسرائیل بالضغط على المسيحيين ما أدى إلى هجرة الكثيرين منهم، وهو أمر ينطوي على خسارة كبيرة في رأي جلالة الملك.
والأمر الثالث: أن الأردن قد فتح بابه لكل المسيحيين المضطهدين للقدوم إلى الأردن واللجوء اليه كما فعل الأردن مع الأرمن بتشجيع وترحيب من الشريف الحسين بن علي.
والأمر الرابع أن المسلمين والمسيحيين يعيشون في الأردن بكل احترام ووئام. وفي هذا الاطار قدمت بیکي آندرسون بعد انتهاء المقابلة لقطات من سوق عمان لمسلمين ومسيحيين يحتفلون معا بعيد الميلاد.
وهكذا نجح جلالته في تقديم صورة مشرقة عن وضع المسيحيين في الأردن مقابل ما يلقونه من ضغط على ايدي المحتل الاسرائيلي وجنوده (ومقتل شيرين ابوعاقلة مثالا).
وكان خلاصة هذا الأمر أن "لو كنتم حكاماً نزيهین، فمن تختارون للوصاية على المقدسات: حكومة اسرائيلية مكونة من عنصريين ومتطرفين لا يعترفون بالأديان الأخرى، أم تختارون الهاشميين الذين يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله. وبالحوار بين الأديان السماوية، وبناء واعمار الأماكن المسيحية والحفاظ على كرامتها.
المقابلة أوضحت وجهة نظر الأردن في التعامل مع اسرائيل، وفلسطين، والابقاء على أسمى علاقات الترابط بين المسلمين والمسيحيين، ورفض الأردن الراسخ لأية مشاريع تستهدف أرضه وحدوده وكرامته وكرامة شعبه، أو تمس الحق المشروع في الوصاية الهاشمية..
مقابلة ذكية، ورسائلها قوية، وشُجاعة، ونرجو من الله أن يرتقي عملنا في الداخل إلى هذا المستوى الراقي من التعامل مع الخارج، لأن الأثنين مترابطان..