ما أظنني في حاجة أن أكرر عليكم أحاديث الصراع الذي نعيشه مع أولئك البربر، والسراق، وشذاذ الآفاق غربي النهر من قتلة الطفولة وكل شيء ينبض بالحياة، هم أحدثوا هناك ثكلاً ويتماً وترملاً وتشريداً، في الوقت الذي يتغاضى فيه الغرب عن عدوانية وتخرّصات إسرائيل بحق أهل فلسطين.
من دايان وإلى شارون وحتى نتنياهو وثم إيتمار بن غفير، لغة الإرهاب واحدة لا تتغير وإن اختلفت المراحل، فما يمكن أن تناله إسرائيل اليوم بقوة البندقية تظفر به أيضاً عبر فرض سياسة الأمر الواقع، عن طريق "تفخيخ" الأراضي بالبؤر الاستيطانية أو من خلال الإمعان في سياسة الإذعان وإجبار الفلسطينيين على تقديم مزيد من التنازلات، فبعد أن كنا نفاوض بشعار الأرض مقابل السلام صرنا ننشد العيش مقابل لا شيء، فيومياً تسجَّل حالات القتل المتعمَّد وهي بازدياد ومسارُ التسوية متوقف وحلَّ بديلاً عنه ظهور "الدبلوماسية القاتلة" لا حربٌ ولا سلم.
أفرزت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عقلية جديدة لدى المواطن الإسرائيلي عندما قرر انتخاب أعتى العقليات تطرّفاً تقوم على الكراهية ونشر الموت في الربوع، في خطوة فاجأت جميع مراكز استطلاع الرأي خاصة بعد النتائج المتقاربة في الانتخابات الأربعة السابقة، وهناك أصوات في الداخل الإسرائيلي ما زالت تحذّر من توجّه "الطغمة الحاكمة" القادمة، هذا التحوّل في ذهنية الناخب الإسرائيلي في الذهاب نحو الراديكالية يعكس حجم التأثير الذي تتركه الأحزاب الأكثر تطرفاً، وبالتالي الإعلان عن وجه إسرائيل الجديد الذين سيكون له ما بعده، وينبغي التعامل معه وفق قواعد اشتباك سياسي جديدة.
أعلن نتنياهو قبل يومين تشكيلته الحكومية مع شركائه من الأحزاب الدينية واليمينية المتطرّفة، وتضم الحكومة المتشدّدَين إيتمار بن غفير، من حزب القوة اليهودية القومي المتطرّف "وبتسلئيل سموتريتش" من حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرّف، وكلاهما يعارض قيام دولة فلسطينية ويدعم بسط سيادة إسرائيل على الضفة الغربية.
في حال تمكن الائتلاف الجديد من تحقيق مكاسب أمنية على الأرض فإن الراديكالية الصاعدة ستتعزز في أي انتخابات مقبلة وبالتالي سيكون الناخب الإسرائيلي أكثر تشدداً خاصةً اذا تراجع عدد البؤر الساخنة التي يسعى هذا الائتلاف إلى إطفائها سواء في جنين أو قطاع غزة وغيرها من المناطق.
مصدر الخطورة هذه المرة في التوجّه الناشئ في إسرائيل أنه في أغلبه يقوم على عقيدة دينية متزمتة لا تؤمن بالحلول الوسط، وإن بدت هذه واضحة في سياسات حكومات سابقة تعتبر نفسها "معتدلة"، وتتعزز العقلية الاقصائية عندما تأخذ شكل "التربية" ويصبح الذهاب باتجاه الحلول المفصلية أولويةً بالنسبة إليها، خاصةً بعد تراجع التيار المعتدل بمجمله إلا في حالات محدودة عبر تشكيل حكومات ائتلافية، وهذا صار أيضاً من الصعب تحقيقه في ظل تصاعد تيار الغلو والذي بدأ يتغلغل في مفاصل الدولة، وأخيراً انتخاب ياريف ليفين من حزب الليكود رئيساً للكنيست لتهيئة الأجواء لوضع سياسات تخدم المراحل المقبلة.
أردنياً، وأمام فصول التصفية التي تُنفَّذُ في المدن الفلسطينية على قدم وساق، وهي تمثل إرهاصات خطيرة لمراحل لا يمكن التنبؤ بنتائجها، ينبغي أن نعيد حساباتنا لجهة اجتراح آليات ناجعة للتعامل مع الظرف القادم وهو يحمل الكثير من التداعيات الكبيرة على الداخل الأردني، خاصةً أن العلاقة بين القيادتين الأردنية والإسرائيلية الجديدة شبه مقطوعة، ونتذكر أن أول قرار لنتنياهو بعد الاتصال الهاتفي مع الملك عبدالله الثاني بعد الانتخابات كان توقيع اتفاق مع المتطرّف بن غفير لتولّي حقيبة الأمن الداخلي بصلاحيات أوسع، ما قد يقود إلى ارتكاب مجازر أكثر فظاعةً ولا يمكن التكهن بمآلاتها على الأرض.
أيضاً، ينبغي تمتين الجبهة الداخلية بفاعلية وليس استجابةً لاستحقاق أو جزءاً من مرحلة سياسية من الصعب التكهّن بإفرازاتها خاصةً وأن الأمور مفتوحة على كافة الاحتمالات، بالتوازي مع الوهن الذي تعيشه القيادة الفلسطينية وتعاطيها الضعيف مع ما يجري على الأرض، ولعل التنسيق الأمني هو "الحبل السري" الذي يبقي عليها إلى جانب تفاهمات غربية ما زال يكتنفها الغموض.
كما أن هذا يستدعي كذلك إعادة النظر في التعاطي مع التوجهات والانحيازات السياسية المشبوهة والمكشوفة لدى بعض التيارات والقوى بالداخل والخارج والتي ترفع عقيرتها في مراحل الاستعصاء بالبحث عن "حل شامل" للقضية الفلسطينية على حساب الأردن من بوابة "الكونفدرالية" أو أي حلول أخرى بقطع النظر عن مآلاتها وإفرازات المسمومة في التركيبة الداخلية، للأسف مثل هذه المجموعات تقدم نفسها دائماً أنها واقعية وتكشف عن خطط ومواقف تعتبرها "خلاقة" مهما كانت الأكلاف باهظة والنتائج مخيفة سواء في فلسطين أو الأردن.
للمرة الألف، كلما نلنا من الأردن نلنا من فلسطين وأمعنا طعناً في ظهرها المثخن بالجراح ويصبح الأردن حينئذ الوطن السليب الثاني.
لفلسطين حق علينا بأن نفوّت مثل هذه الفرص والأهداف على كل حاقد أو جاحد أو مغرض له حسابات ضيقة وقنوات مفتوحة مع الخارج ولا يهمه إلا مزيداً من المتاجرة بالقضية.