دائما وأبداً كان الكلام هو أن مشكلة الأردن إقتصادية بالدرجة الأولى وليست سياسية أو أمنية، بيد أن الملف الإقتصادي في الآونة الأخيرة صار ضاغطاً وفي كل مرة يكون له إفرازات صعبة تفضي في غالب الأحيان الى حدوث هزات أمنية ولو بدرجات محدودة، نظرا للطريقة المثالية في تعاطينا مع حركة الإحتجاجات رغم إتساع رقعتها وسقوفها المرتفعة في بعض المرات ووصل بعضها حدود المطالبة بإسقاط النظام.
كان أسلوب "الأمن الناعم" في إحتواء المظاهرات سلاحا تكتيكيا مذهلا، إذ لم تسجل لدينا حالة وفاة واحدة، بعكس ساحات مجاورة كان القتل فيها بالمجان. كما كانت مشاهد رجال الأمن وهم يوزعون عبوات المياه على المتظاهرين في الشوارع تحتل شاشات الفضائيات العالمية، ولاقت صدى إيجابياً داخلياً وخارجياً.
منذ العام 2011 وحتى أحداث الحسينية المؤسفة تراكمت لدينا خبرة كبيرة في التعامل مع الإعتصامات المطلبية، ونجحنا أكثر عندما كنا لا نصغي لأصوات التحشيد المشينة ضد هذه الاحتجاجات وحال هذه الأصوات ينطبق عليه كمن قالوا: "إذا ضربتم فاثخنوا" واذا هدأت الأزمة عادوا وقالوا: "إنما كنا معكم"، يشنعون على كل صوت، وهم يحسبون أنفسهم يحسنون صنعا. بئس الإنبعاث والله.
خطاب التحريض الإستفزازي الذي يتعالى مع كل حالة مشابهة ربما يحمل في طياته تأجيج الأوضاع وزرع بذور السوداوية وحالة الإغتراب الداخلي لدى كثيرين وهذا أساس المشكلة بإن يعيش الإنسان غريباً في وطنه، فالأبوة الوطنية هي ما يلزمنا بأن ينظر الأردني الى الوطن بأنه والده او أمه أو أحد أفراد أسرته وهو الضمانة للخروج من أي أزمة، ولذلك يجب أن نحمي هذه الأبوة لا ان نقتلها في لحظة غضب أو مغامر غير محسوبة للتعبير عن حب الوطن من خلال أسلوب التحريض، أنظروا ماذا كانت النتائج في دول أخرى عندما لجأت الى "الأمن الخشن" وانظروا أيضا ماذا كسبنا عندما إخترنا الأمن الناعم.
هدأت الأزمة الأخيرة بعض الشيء، لكنها ما زالت مفتوحة أمنيا وسياسيا وإقتصاديا، في الشق الأمني هناك ملف الإرهاب الذي أطل برأسه من جديد وضرب بقسوة وخسة في الحسينية وراح لنا شهداء وجرحى وآلم قلوب جميع الأردنيين، وهو ما زال قيد التحقيق والبحث عن هذه الفئة الباغية التي كانت نائمة بيننا وفاجأتنا على حين غرة، فلم يكن ثمة تجارب سابقة بأن الإعتصامات وخروج الناس بيئتها المفضلة للعودة والإنتشار، يبدو هناك جهات وما أكثرها لا تستطيع العيش الا في ظل الفوضى والمناخات الساخنة والمضطربة فهي البيئة الحاضنة والملائمة لها لتنمو وتتمدد.
الدرس الذي ينبغي أن ننتبه إليه هو أن القضية صارت أكبر وأخطر من مجرد إعتصامات وإضرابات مشروعة جراء الأوضاع المعيشية المتردية، في مأساة الحسينية راح ضحايا من فلذات أكبادنا، وهو خطب جلل، لكننا لا نريد ان نستيقظ ذات يوم على ما هو أسوأ من إستخدام السلاح تجاه رجال الأمن، فمن تمكن أن يصوب الرصاص الحي على أفراد الشرطة بالأمس القريب، فبالتأكيد لن يتوانى عن اللجوء الى التفجير والبحث عن مناخات جديدة أشد قسوة للتعبير عن أحقاده الدفينة والبحث عن موطئ قدم له، خاصة بعد الضربة القاصمة التي تلقاها عندما تم الثأر للشهداء.
لكن، هل سنظل أسرى لتداعيات الأوضاع الإقتصادية الصعبة ومآلاتها المفتوحة على جميع الإحتمالات؟، وهي أصبحت مرتبطة قلبا وقالبا بالهاجس الأمني، وهل الحل في منع حركات الإحتجاج للننجو؟، أم الذهاب إلى مقاربة العزف على وتر الوطنية حتى ترجع الناس عن مطالبها وعدم الخروج في مسيرات أو مظاهرات من شأنها فتح المجال أمام المغرضين والموتورين للنيل من أمن البلد، وبالتالي تصفية حسابات الدفاتر القديمة، خياران كلاهما غير واقعي ولهما تداعيات غير محمودة في المديين البعيد والقريب خاصة وأن مشكلتنا إقتصادية بالدرجة الأولى وهي في تعاظم، ما يعني أن الأمور قد تستمر وتطول وهذا يجعل الخيارين السابقين غير متاحين ولا بأي شكل من الأشكال.
لا بد من صيغة متوازنة للإشتباك مع الملف الإقتصادي برمته وليس كمرحلة تتقدم و تتأخر مع حدوث كل أزمة ويتم معالجتها بالقطعة وبشكل مؤقت عن طريق تسكين الشارع ومن ثم نعود الى المربع الأول في ذات الأزمة، الوضع الإقتصادي في غاية الصعوية وهو مرتبط باستحقاقات مع المؤسسات المالية الدولية التي لها شروطا صعبة أكثر ما تنال من قوت المواطن، وأخيرا مطالبات صندوق النقد الدولي بإصلاحات لملفي المياه والكهرباء للحفاظ على إستدامة المالية العامة، وفق ما ذكر تقرير نشرته قناة المملكة أمس.
في الشق السياسي، الأردن جزءا من ملفات المنطقة الشائكة وفي مقدمتها القضية الفلسطينة ولا يمكن فصله عن أي مسار، حالة الإنهاك الإقتصادي التي يعيشها الأردن منذ عقود ليست بمعزل أبداً عن مرتكزات الحل النهائي للقضية على حسابه، وبالتالي إستيعاب كافة التأثيرات والإرتدادات التي يخلفها في الداخل الأردني، وهنا أيضاً ينبغي فتح قنوات سريعة مع الأشقاء في دول الخليج لإنقاذ الموقف ولا ننتظر الدخول في محطات مؤلمة جديدة قد لا تقل إيلاماً عما شهدناه خلال الأسبوع الأسود الماضي.
الأردن يخرج دائما من كل أزمة أقوى وأصلب ولطالما شكّل أنموذجا في المنعة والسؤدد بالمنطقة، وظل الأردنيون على قلب رجل واحد مع الدولة، فالأحداث والتقلبات تعزز المناعة في جسم الوطن وتجدد الولاء والإنتماء لقيادته.
أستذكر هناك في إحدى وصايا الملك الحسين رحمه الله للأميرة هيا بالقول: "إن الضربة التي لا تكسر الظهر تشده"، كذلك حال الأوطان.
حمى الله الأردن من كل مكروه.