كان احتمال توليد طاقة نووية نظيفة ورخيصة طيفاً يراود مخيّلتي منذ أن صدمت بوضعنا المائي عام 1978 حين بينت دراسة المستشارين هوارد همفري ذلك العام أن حاجتنا للمياه المنزلية والصناعية عام 2000 ستفوق كثيراً ما توفره لنا مصادر المياه المتجددة، وهو ما حدا بالحكومة الأردنية عام 1979 إشعار القيادة العراقية بحاجتنا سد العجز الذي سيترتب في نهاية القرن الماضي وكان بحدود 160 مليون متر مكعب، بعد توفير مياه من نهر اليرموك بطريق قناة الملك عبدالله إلى عمان، ومباشرة إلى إربد، وكمية من الأزرق إلى عمان. ووافقت يومها القيادة العراقية تزويدنا تلك الكمية سنوياً من نهر الفرات. وكانت كلفة المتر المكعب لإيصالها إلى ضواحي العاصمة الشرقية زهاء دولار واحد وهي كلفة عالية يومئذ فتوقف النظر في المشروع.
وترتب العجز المشار إليه فعلاً، وكان إجراء الحكومة لسده نقل مياه من طبقة الصخر الرملي المنتشرة تحت كافة أراضينا واختارت موقع الديسي لإن الاستقصاء عن المياه هناك عام 1968 بيّن وفرتها ونوعيتها الملائمة. واستمر العجز في التراكم عاماً بعد عام حتى غدت خدمة الأحياء في المدن بما فيها العاصمة من أمنيات ساكنيها.
ولست أدري ما الذي يُعيق من التوسع في استغلال مياه طبقة الصخر الرملي سيما وقد بين الاستقصاء عنها في مواضع كثيرة وفرتها وصلاحية العديد من مواقعها للاستعمال. وهي مواقع أقرب إلى مدن المملكة من موقع الديسي. وبيّن الاستقصاء أن مياه طبقة الصخر الرملي مضغوطة أي أبارها ارتوازية حتى أنها تدفقت إلى سطح الأرض من عمق يقارب 900 متر في وادي ضحل من أعمال وادي عربة الشمالي.
لكنني لست الآن بصدد البحث في هذا الموضوع وإنما أريد التشديد على وجود مياه وفيرة في طبقة الصخر الرملي وهي مياه أحفورية غير متجددة لكنها تفي بأغراضنا لعقود إلى أن يصبح الحلم حقيقة، وحدسي أنه سيكون ذلك الحلم حقيقة في السوق في فترة لا تتعدى عشرين عاماً من أيامنا هذه، ويمكننا خلال هذه المدة الاعتماد على طبقة الصخر الرملي لتزويدنا حاجاتنا من المياه.
أما الحلم الذي كان أمانيَّ طيفاً فهو استيلاد الطاقة بالاندماج النووي، وهي طاقة حرارية هائلة تتولد من إدماج ذرة الهيدروجين بذرة من الهيليوم. ويمكن استغلال تلك الطاقة الحرارية لتوليد البخار وتشغيل مولدات للكهرباء. وهذه التكنولوجيا تحاكي التفاعلات التي تحدث في كوكب الشمس الذي تشع منه الطاقة إلى الفضاء. والعملية نظيفة لا تخلف نفايات نووية كما تفعل التكنولوجيا المعمول بها من فترة (الانشطار النووي)، وبسبب الكمية الهائلة من الطاقة المتولدة فإن كلفتها ستكون رخيصة.
وبالفعل، تمكن الباحثون في مختبر Lawrence Livermore في منطقة خليج سان فرانسيسكو بكاليفورنيا التابع ل National Ignition Facility من تحقيق ذلك الحلم الذي كان طيفا! فقد تم الإعلان عن اختراق علمي تكنولوجي تاريخي في ذلك المختبر يوم 5 كانون الأول وتم الإعلان عنه فور اكتمال بيانات التجربة يوم الثلاثاء 13 كانون الأول 2022. والمهم في الأمر ليس فقط تحقيق التصادم بين الذرات ودمجها ولكن الوصول إلى طاقة ناتجة عن ذلك تعادل ضعف الطاقة التي استعملت لإنتاجها.
قال تعالى «وجعلنا من الماء كلّ شيءٍ حيّ». فكل شيء حي من نبات أو حيوان يعتمد في كينونته على الماء. وليس جديداً القول إن الطاقة هي المسؤولة عن توفير المياه لكوكبنا. والمتفحص لدورة المياه المتجددة على سطح الكوكب يدرك كيف تعمل طاقة الشمس على تبخير مياه المحيطات ويرنفع البخار بطاقة الحمل إلى الأجواء حيث تتشكل السحب وتدفعها طاقة الرياح إلى اليابسة وبعملية تبادل حراري تتشكل قطرات المياه من هذه السحب وتسقط بفعل طاقة الجاذبية على اليابسة وتسيل إلى مستقراتها من حيث ابتدأت رحلتها بفعل طاقة الجاذبية أيضاً.
أعطني طاقة أعطيك مياهاً لاستعمال كل شيء حيّ. فمياه المحيطات لا حصر لها، وتحتاج إلى طاقة لتحليتها، على أن تكون كلفة ذلك في متناول المستعمل. ومنذ استحداث تكنولوجيا تحلية المياه كانت وما زالت كلفتها مرتفعة. وفي حالتنا لا بد من ضخ تلك المياه المحلاة إلى أماكن الاستعمال المرتفعة عن سطح البحر والبعيدة عنه ما يتطلب المزيد من الطاقة ومن الاستثمار الرأسمالي. وما زلنا، نحن الأردنيين، نعجز عن مواجهة أكلافها بدخلنا القومي الحالي وبأنماط توزيعه.
يطمح الباحثون في كاليفورنيا باستيلاد طاقة من الاندماج النووي في المستقبل تناهز ثلاثين ضعفاً للطاقة المستخدمة في استيلادها وأكثر. ومن شأن ذلك تحول رهيب في كفاءة السلاح النووي وقدرته التدميرية، وهو ما حدا بالولايات المتحدة وبالغرب عموماً الانفاق على هذه البحوث منذ نهاية الحرب الكونية الثانية. أما نحن، فسنكون من المستفيدين من الطاقة الجديدة لتحلية مياه البحر ونقلها. وإلى أن تتوفر الطاقة الجديدة يمكننا الاعتماد على ما نستطيع مواجهة كلفتها من المياه، وهي المياه الأحفورية المتواجدة ارتوازياً في جوف بوادينا.
نبارك للعالم وللولايات المتحدة الأميركية هذا الاختراق العلمي التكنولوجي، ففيه خلاص العالم وفيه أيضاً دماره إذا ما تم استعماله بتعسف معهود:
كلما أنبت الزمان قناةً ركّبَ المرءُ في القناة سنانا
رحم الله أبا الطيب المتنبي ورحمنا جميعاً، والله غفورٌ رحيم.
الرأي