كوكبة شهداء التحديث السياسي وابعاد النموذج الديمقراطي
النائب د. فايز بصبوص
23-12-2022 12:27 AM
إن ترسيخ واقع كوكبة شهداء الأمن العام ببعده التاريخي، يكمن في أن هذه الكوكبة ضحت بأغلى ما تملك، ليس فقط من أجل البعد الأمني للدولة الأردنية، ولكنها جاءت كوكبة تدافع عن مشروع التحديث السياسي، ولذلك فكل قطرة من دماء شهداء بواسل الأمن العام، كانت تبعث برسالة على أن الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية، يكمن في تقديم الغالي والرخيص من أجل استكمال مهام التحول الديمقراطي، وأن مستوى التضحيات انبثق من العقيدة الراسخة التي تجسدت بعد مشاريع التحديث السياسي، بأن يكون حماية مخرجات الإصلاح السياسي أولوية في العقيدة الأمنية، والتي تقوم استراتيجيتها على حماية الديمقراطية الناجزة، ولو أن تلك العقيدة لم تنطلق من هذه الثوابت لكان القرار امنيا باجتثاث قصري لتلك المجموعات دون أن يمس أي رجل أمن بسوء، ولكن حماية حق التعبير وحق الإضراب وحق النقد والحقوق القانونية للمواطن الأردني هو الذي جعل الامن العام يجسد مفهوم الحمائية لمخرجات الديمقراطية، خارج إطار الصدام الأمني المباشر، وهو ما رفع نسبة الدم المسال في التعامل مع هذه الزمرة المتطرفة مهما كانت دوافعها.
فعندما زار جلالة الملك مجلس الوزراء بشكل مفاجئ، وأكد على أن الشفافية هي اساس محوري وركيزة من ركائز التمكين الديمقراطي، وذلك انطلاقاً من أن توسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرارات هو المدخل الواقعي للإسناد المجتمعي، وأن هذا الإسناد وخاصة في ظل المستوى المتطور جدا للمسؤولية المجتمعية للشعب الاردني يتطلب الايمان المطلق في الاستراتيجية الملكية للتمكين الديمقراطي وان من يشكك في هذه الاستراتيجية وغير قادر على التكيف والتكيف مع استحقاقاتها علي ان يعلن ذلك ويتنحى عن المسؤولية ويتيح المجال للاخر على ان يتحمل تلك المسؤولية.
ما ذهب اليه جلالة الملك يعبر عن قدرة استشرافية انطلقت من فهم دقيق لواقع المطالب الشعبية المطلبية وان المواطن الاردني قادر على تحمل واحتواء كل الازمات اذا ما كان على معرفة تامة بمخاطر الانزلاق بالتماهي مع مشاريع التصفية للازمات الاقليمية على حساب الاستقرار والامن الاردني من هنا ننطلق في ان اي تقييم موضوعي لكل الوقائع والاستحقاقات في اطارها الامني يجب ان ياخذ بعين الاعتبار ان جلالة الملك كان قد استشف ذلك التحول في بنى المتطرفين كما يدعو او ان هناك ما ينمو في اطار متدرج وبغياب حقيقي عن الخطاب الاعلامي الرسمي بان هذه الخلايا النائمة والتي ترتهن في تنفيذ مخططاتها من الخارج وذلك واضح تماما ان تلك الخلايا انتظرت اي تحرك مطلبي شعبي موظفة الواقع الاقتصادي من اجل تنفيذ مخططاتها.
لماذا نقول ذلك نقول ذلك بوضوح تام ان اجهاض مشروح التحديث السياسي في الدولة الاردنية الحديثة هو محور مركزي في سياسة الدول التي تستهدف الرسالة الاردنية بكليتها فان نجاح الاردن في مشروع استكمال مهام التحول الديمقراطي يعني رفع الغطاء بكل وضوح عن الامتداد الشعبي لتلك الحركات والتي ستكون بكل تفاصيلها معزولة جماهيريا يظهرها على حقيقة واقعها التمثيلي والذي لا يمكن ان يكون ولا يشكل حتى بمعايير القياس النسبي الصفري للتجريد.
من هنا كانت تنتظر اي احتكاك بين السلطة والمكونات الشعبية لركوب موجة الاحتجاجات المطلبية المعاشية الدستورية المحقة والتي طالب جلالة الملك في كل لقاءاته بتصعيدها ضمن اطار المشروع السياسي ولكن بمعايير تحدد ثقافة الاضراب او الاعتصام او الاحتجاج في سياق المصلحة الوطنية العليا.
انطلاقا من كل ذلك التشخيص لسنا بصدد الانزلاق الى الاخفاقات الغير مقصودة للسلطة التنفيذية ولكننا بصدد فهم اكثر واقعية لكل تحرك ملكي وخاصة عندما يكون مفاجئا وذلك يعني ان قيادة هذا الوطن تستشرف انزلاقا نحو صدام مجتمعي تحركه تفاعلات الاقليم وليس الية تنفيذه او ترجمته من قبل السلطة التنفيذية والتي ولاول مرة كانت منزهة عن البعد الذاتي في الازمة اي انها ليست مصدرا او سببا في تراكم الاحتياجات المطلبية للناس ولكن المتغيرات الضاغطة اقليميا وعالميا على واقع الاقتصاد الاردني بشكل لم تعهده اي دولة في العالم ولم تستطع احتواءه كبرى المؤسسات الدولية أثاره يستوجب اليات فريدة من نوعها للتصدي الى الابعاد الاجتماعية والاقتصادية التي انعكست حقيقة بشكل متوازن على الاردن مقارنة بما يحصل في دول الجوار.
إذن فالبناء التشخيصي لواقع الأزمة يتطلب رؤية اشمل لما يحدث انطلاقا من ان مفردات الضغط الواقعة على الاردن بشكل مباشر وغير مباشر لا بد ان تكون بابعاد خارجية واجندات لم يعهدها واقع التحول الدراماتيكي والتسارع في تنفيذ مخطط صهيوني بكل ابعاده من خلال تهيئة بيئة اردنية تكون حاضنة لمشروع الوطن البديل ارتكازا الى سقف التحول الحادث في هذه الاثناء في الحكومة الفاشية التي تبرر مشروعها الخاص والقديم الجديد في ان استقرار المنطقة يكمن في احداث تغيير جيوسياسي حقيقي جديد يقوم على اساس مشروع الوطن البديل كركيزة للاستقرار.
وفي جانب آخر كان هناك رد من قبل كل دول العالم بما فيها مراكز الدراسات والبحوث، بأن ما يتشكل في احشاء البنية الصهيونية الجديدة، يشكل خطراً حقيقياً على كل معايير الديمقراطية الدولية، ولذلك فقد وجه الاتحاد الأوروبي والحكومة الأمريكية، وكل دول العالم، برسالة واضحة إلى الكيان المحتل، بأن هذا التحول يشكل خطراً لا يحمد عقباه على الدولة الصهيونية، أولاً وأخيراً.
إن معايير القياس للحل السلمي دولياً، يكمن في فهم حقيقي للموقف الأردني الحكيم، والذي يقوده باقتدار جلالة الملك عبدالله الثاني، من خلال تجسيد النموذج الديمقراطي الوحيد في المنطقة، بامتثاله لمعايير الديمقراطية والتحديث السياسي، والذي يشكل رعباً لخطوط التقاطع مع هذا الكيان الذي يرفض في بنيته الآخر، والذي بات يعتبر أن الدولة المدنية أصبحت نموذجاً عفى عليه الزمن، وأن الأردن بمشاريع التحديث السياسي والديمقراطية المطلقة سيكون هو النموذج للدولة المدنية والعصرية والحديثة.
أرى هنا أن الإسراع في ضرب النموذج الديمقراطي الأردني، هو هدف لا يمكن التغاضي عنه كون هذا التحول يصنع بديلاً حقيقياً للديمقراطية في الشرق الأوسط ما سيعمق مأزق الصهيوينة، لذلك جاءت الدعوة لقمة «بغداد 2»، والتي عقدت في سياق عملية استهداف الجبهة الداخلية، لتبعث تلك الدول برسالة واضحة المعالم إقليمية الطابع، بأن الأردن محور حقيقي في استقرار المنطقة، رغم أن المجتمعين في هذا الحدث وهي «قمة بغداد»، تكمن بينهم تتضمن تناقضات استراتيجية فوجود السعودية وإيران وقطر وبالرعاية الفرنسية، وبكل ما حملته هذه القمة من أبعاد جيوسياسية، تؤكد على محورية الأردن كمؤسس للتشبيك الإقليمي بين العراق ابتدأ ومصر.
الأردن هو من مهد إلى التوسع في القوة المساهمة في دعم واستقرار العراق، هذه هي الحكمة التي يتجلى بمضامينها السلمية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين.
وأننا كأردنيين وبمعيار سياسي، نؤكد بأن استهداف الأمن والاستقرار، وحصانة الجبهة الداخلية، كان يهدف بكل وضوح إلى انتزاع محورية وطننا الحبيب، والذي انبثقت منه مفاهيم التشبيك السياسي والاقتصادي، وجمع في طياته كل التناقضات الإقليمية، ذلك أن كل قوى المحور الداعمة للعراق شكلاً ومضموناً اعتبرت الأردن البلد الوحيد القادر احتواء وإنجاح هذه القمة، لأنه يرتكز بكل أبعاده على أنسنة السلوك السياسي للدول، خارج إطار المحاصصات القائمة على المصالح الخاصة ضمن إطر «الأنانية» الدولية.
لذلك نقول أن هؤلاء الشهداء هم الكوكبة الأولى من كوكبة التحديث السياسي لأنهم ذهبوا للدفاع عن هذا الشموخ الأردني في استحداث مشروعه النموذجي في الديمقراطية، والذي يتضمن حرية التعبير وحماية القضايا المطلبية المحقة بشكل عام، ولكنها اصطدمت بذلك التوظيف وبتلك الشعبوية البغيضة والمتاجرة ببؤس ودم الناس التي انبثقت في إطار تعبوي تجيشي شعبوي يستهدف زعزعة ذلك الاستقرار، والذي هو النقطة المضيئة تاريخياً في سياق التحولات في المنطقة.
الإصرار على ترجمة العقيدة الأمنية التي تتماها ومشروع التحديث السياسي، والقائمة على جلب المستهدفين إلى القضاء، يتناقض تماماً مع التصرفات التي تقوم بها الدول القمعية التي تستهدف التصفية الميدانية خارج إطار القضاء الحقيقي، والتي تعتمده كعقيدة للكيان الصهيوني، والتي آخرها نزع الغطاء عن اليمقراطية المزعومة للكيان الصهيوني، والتي تجلت في عدم الاستجابة الإنسانية للشهيد ناصر أبو حميد، وابقته ضمن إطار الاعتقال رغم إقرارها بأن مرضه العضال يجب أن يخضع لآليات صحية إنسانية، وليس من منظور أمني بحت والذي ادى الى استشهاده نتيجة للأهمال الطبي المتعمد.
كل تلك المفارقات تؤكد على مفهوم الأنسنة السلوكية للدبلوماسية الأردنية، وأنها تنشد السلام ضمن معايير التشبيك والتشابك في الإطار التنموي والاشتباك حتى العظم، ولكنها إذا ما استهدف الأردن وجوداً ستنطلق معالجاتها بمعيار لا يقبل التأويل.
لذلك على كل القوى الاقليمية والمحلية أن تأخذ بعين الاعتبار ذلك النموذج الوهمي والمشوه الذي يدعيه الكيان الصهيوني، من خلال ممارساته على أرض الواقع، وهو ما بدأ واضحاً لكل العالم.. لا يرتكز إلا على خلق الأزمات لكل الدول التي تنشد التحرر من التبعية لنموذج أوحد للديمقراطية، دون الأخذ بعين الاعتبار الثوابت القيمية والإنسانية والبيئة الموضوعية لكل بلد على حدا، لأن ذلك سيؤدي إلى استهداف استراتيجي للأبعاد الروحية والقيمية للنموذج الأردني الذي يرتكز على الوصاية الهاشمية في أبعادها الروحية والعروبية والسيادية للمقدسات الإسلامية والمسيحية، ضمن إطار الوئام الديني وهو الرديف المباشر لمشروع التهويد الديني، فالتعددية سمة من سمات هذا الوجود، ولذلك فنحن النقيض الإكثر وضوحاً للمشروع الصهيوني في المنطقة والإقليم.
الرأي