"فضفضة" مغترب في منتصف الليل
عامر طهبوب
22-12-2022 10:07 AM
يبدو أن "الاحتقان" أكثر مفردة يمكن استخدامها في وصف الحالة الأردنية، ويبدو أن الانتقال إلى الحديث عن رفع معدلات التنمية، والتحديث السياسي، والأحزاب، والتعددية، وتخفيض معدلات البطالة، وإشراك الشباب، وتمكين المرأة، وكل المصطلحات التقليدية التي يتم استخدامها، باتت نوعاً من تكرار لاسطوانات ما عاد أفراد الشعب يتفاعلون أو يتأثرون بها، وكذلك الشفافية، والمكاشفة، وكل المصطلحات التي فقدت بريقها.
الاحتقان عنوان المرحلة، وهو نتاج مجموعة من عوامل جعلت من الفرد الأردني قنبلة موقوتة تسير على قدمين، ما أن تمس طرفاً من أطرافها حتى تنفجر في وجهك، وقد يبدو لك أنها انفجرت لأبسط الأسباب، ولكن الحقيقة تشي بأن شعرة قد تقصم ظهر البعير، وأن القشة ليست السبب، فقد وصل تعب الحال إلى درجة الثمالة، ولم يعد بالإمكان السير إلى الأمام على نحو تسير عليه عجلة تتعرض من حين لآخر إلى "بنشر"، ما عاد "البنشرجي" يرى فيها إلا ضرورة التغيير.
"تفكيك الاحتقان" أولوية أولى على كافة المستويات، وضرورة ملحة تُمَكّن الرسمي والشعبي، والفرد والجماعة، من التقاط الأنفاس، والعد للعشرة، وربما للمائة، قبل القول، وقبل الإقدام على أي فعل، وربما نحتاج إلى "مراجعة" فاعلة، صادقة وأمينة، رسمياً وشعبياً، وربما تحتاج النخب السياسية والفكرية إلى مراجعة نهجها، وتفكيرها، وسلوكها، ومراجعة أدواتها، وقدراتها، وأدوارها، بما في ذلك التنحي لمن لم يعد لديه ما يقدمه لخدمة الدولة، وليس في ذلك نقيصة.
وعلى أن عبارة "تفكيك الاحتقان" عامة ومطاطة، إلا أننا يجب أن نتفق على قواسم مشتركة، أهمها وأولها هو احترام حقوق المواطن، وعلى رأس هذه الحقوق حقه في إبداء الرأي، وحقه في المأكل والملبس والصحة والتعليم، وحقه في الأمن والطمأنينة، وتلك مسألة الدولة الأساسية، والهم الذي يجب أن يشغل الحكومة صاحبة الولاية العامة.
وهناك ثوابت متفق عليها، ولا يجب ولا يجوز العبث، أو الاستهانة، أو التفريط بأي جانب من جوانبها، أن سلامة المدني لا تقل أهمية عن سلامة العسكري، وأن الشهداء الذين سقطوا من رجالات الأمن العام، هم شهداء وطن، شكّل رحيلهم غصة في حلوق الأردنيين وحناجرهم، ولم يعد مقبولاً المس بأي صورة، بسلامة وأرواح أبناءنا وإخواننا في الأجهزة الأمنية.
نحن في أمس الحاجة إلى الهدوء، والتقاط الأنفاس، والعمل على تفكيك هذا الاحتقان غير المسبوق، بمزيد من سعة الصدر، صدر الحكومة أولاً، صدر الدولة، صدر أصحاب القرار، ولكن أيضاً صدر المواطن الذي ضاق صدره، وقل صبره، وتضاءل أمله، وهذا مؤشر مقلق على الحكومات التصدي لمعالجته بأقصى سرعة ودون تباطؤ، أن لا يفقد المواطن الأمل، وحتى لا يفقد الأمل، يجب أن يلمس العمل، أن يلمس التغيير نحو الأفضل، أن يشعر بقيمة مواطنته، أن تنصت الآذان لشكواه، لمعاناته، لرؤيته، لمقترحاته، لحاجاته، وأن يُشرَك في صناعة القرار، وفي استدامة الاستقرار.
وعلى الأردنيين أن يدركوا على اختلاف منابتهم وأصولهم، أنه لم يعد مقبولاً إقصاء هذا أو ذاك، في وطن هو وطن الجميع، بلا اصطفاف على جهة اليمين، أو انحياز إلى اليسار، أو كما يقول درويش "التمترس في الوسط"، وأن يتوحدوا تحت راية العلم، وعلى الحكومات أن "لا تركب رأسها"، وأن تراجع سياساتها وأولوياتها، وأن تجري نقداً ذاتياً لأدائها بعامة، وتعاطيها مع القرى والأرياف، في الجنوب وفي الشمال، وفي شرق المملكة وأغوارها، فهناك طبقات وشرائح أقل حظاً واهتماماً من غيرها، أقولها بأمانة وصراحة وصدقية، الأردن ليس عمان، ويجب على الحكومة الحالية والحكومات اللاحقة، أن تلتفت إلى الأطراف، وإلى الأجنحة والأعماق، وليس إلى القلب على حساب أبناء قرى "تخّوا" من التعب والمعاناة، وبشكل خاص عاطلين عن العمل من فئة شباب أغلقت في وجوههم أبواب الرزق والعمل والأمل.
وفي الأول والآخر، فإن الإصلاح ضرورة، والتجديد حاجة ماسة، التجديد في الدماء أولاً، وأعني من يتولى السلطات في جسد الدولة في القطاعات المختلفة، وقد آن الأوان منذ زمن، أن يفسح المجال لقيادات شابة مخلصة مدربة، بل مبدعة وخلاقة، قادرة على ابتكار حلول، وتقديم رؤى جديدة يتفاعل معها المواطن، وبخاصة فئة الشباب التي تشعر بالإقصاء والتهميش بشكل أو بآخر.
لا حل إلا بالتوافق، ولا نهضة إلا بالعمل المخلص الدؤوب، لم يعد الارتجال مقبولاً، ولا التعنّت، ولم يعد الخطأ مقبولاً، ولم يعد التلكؤ مقبولاً أيضاً، زوايا الرؤيا يجب أن تتغير، لتفكيك الاحتقان، وفتح الأفق نحو تحسين نوعية الحياة لأبناء الوطن، وقبل هذا وبعد، لا يجب علينا أن نفقد البوصلة، والبوصلة هي الوحدة الوطنية تحت الراية الهاشمية، والبوصلة هي المنعة الوطنية التي لا تسمح لمفسد، أو حاقد، أو صاحب مصلحة خاصة، أو أجندة غير واضحة، أن يصفّي حساباته مع جسد الدولة على حساب الوطن، أن ينفذ إلى عقول الأردنيين العاشقين لوطنهم، الحريصون على سلامته، ودوام استقراره، ويعمل على تشويشهم وتشكيكهم، وعدم السماح لا للقريب ولا للبعيد، لإثارة فتنة، وخلخلة هذا النسيج الأردني الوحدوي العاشق الأبي العامر بمعاني الفداء والشهامة والإباء.
الأردن وطن الأحرار، الشرفاء، الأوفياء، الأتقياء، المخلصين، الصادقين، العاملين، لا المدعين، ولا المشككين، ولا الأدعياء، والوكلاء، وهو ليس وطن قتلة يوجهون سلاحهم لعلية القوم حملة الشعار، وليس وطن من يعمل على شق الصفوف، وإثارة النعرات، والدعوة إلى الفوضى، وسيبقى الأردن في قلب أبنائه، سوسنة، زهرة لوز، أو شجرة دفلى، محراباً مقدساً، وسيبقى نهر الأردن أردنياً، لا يتوقف في شرايينه جريان الماء، وستزول الغمة، وستصبح الأزمات خلفنا، كما خلّفها الأردنيون خلفهم عشرات المرات على مدى مائة عام ونيّف، وسيأتي الفرج، ويهطل المطر.