لا تحتاج الدول كثيراً من الذكاء لتعلمَ أن الفقرَ يأتي بالتمرد عاجلاً و آجلاً، ذاك حين ينقسمُ المجتمعُ ما بين فقيرٍ وغنيٍّ في عالمين دون فرصةِ تجاوبٍ بينهما سوى سخطِ الفقير علي الثري و سخطِ الثري علي الفقير، كلٌ من منظوره، مظاهرُ الفقرِ واضحةً في المجتمعاتِ كما هي مظاهرُ الغِنىٰ، فالغلاءُ شديدُ الوطأةِ علي أصحابِ الدخل المحدود و هناك مَنْ الألفَ عنده كالقرش، والحكومة والقطاع الخاص لا يمتلكان القدرة لتقليم الغلاء ولرفع الأجور بالقدر الذي يساوي في المعادلة التي دوماً ترفع التكاليف وتهوي بقيمة الأجور ويبقى ميزانها غير مستوٍ، فماذا يفعل المواطن الفقير وما الذي يخشاه؟، خشيةً من الفقر يلجأ للمساعدات العائلية والخيرية والديون التي تزيدُ في غرقهِ المالي ولبيع مقتنيات والتقشف في المصاريف الكمالية ثم الأساسية و ربما توقف الأطفال عن التعليم و دفعهم لسوقٍ لا يرحم طفولتهم، قد يتمكن المواطن أن يحاول زيادةَ دخله في عملٍ ثانٍ و هامشيٍّ لكن حظوظهُ لن تكون طيبةً علي المدى البعيد، وبالإضافة لما يلزم من تصاريح للعمل سيزدادُ الإرهاق المبذول لتحقيق الدخل الإضافي و سيقضي مزيداً من الوقت في عمله علي حساب عائلته و الصحة و بدلاً من تحسين وضع الأسرة قد تتدهور أحوالها. كلمةُ "مستورة" وصفٌ سيستخدم لكنه لا يدوم و لا يُشْبِعْ.
بالتوازي، عند الأثرياء بذخٌ و تبذيرٌ و شهواتٌ متأججةٌ لكل صرعة و اقتناء كل جديد، لا يستطيع الغني أن يُخفي استمتاعه بالثروة علاماتها هي البيت و السيارة و المطاعم و الملاهي و النوادي و المهرجانات و السفر و التعليم الممتاز فكلها مظاهر فرحةٍ للغني و لكنها مصدرَ بؤسٍ للفقير، رويداً رويداً يتأصلُ الفالق العميق بين من يملك و من لا يملك و بالتدريج تتعمق الحساسيات و الشعور بالتهميش و الرغبة في الغضب والتمرد والثورة.
تبقى من طبيعة الحياة أن يكون في المجتمع فقراء و أغنياء و من الحكمة أن يفصلهما طبقةٌ من المفترض أنها أكبر من كليهما لكنها تعمل كجسرٍ ثنائي الاتجاه يسمح في الظروف العادية لحركةٍ بين الفقر و بين الاستقرار المعيشي في وربما تسلقاً للغنىٰ و أحياناً نزولاً من الثراء لها و لما دونها في حالاتٍ استثنائية. هذه الطبقة الوسطى هي التي تفرز للمجتمع بإيجابيةٍ راضيةٍ عمالتهُ المهنية و الإدارية و توازنهُ في فرض عاداتٍ و تقاليدٍ و منظومةِ تعاملٍ مجتمعي مستقرةً، وما دامت تعمل فهي تُبقيهِ متفائلاً و تَعِدُهُ بالأحسن وحين الأزمات العظيمة يُلاحظُ التوجه من هذه المنطقة الوسطى نحو الفقر و من الغنية نحو الوسطى، وإن تتميز هذه الطبقة الوسطى بالصبر و التدبير و الحيطة ما دامت تستطيع التصرف بالمدخرات ضمن مدىً منظوراً ومحكوماً من قبل الدولة، ما يعطيها أملاً في التعافي و حلولاً لإعادة توازن المجتمع، فإنها، و قد مالت للاستقرار لسنواتٍ، ستبدأ بالتململ عند طول مدة الأزمة و تآكل مكانتها وأول علامات التململ هي الهجرة لبلادٍ قد تحتفظ فيها بملامح حياتها التي تعودت عليها، وهو ما شهدناه في كل بلاد الأزمات العربية.
إن الهدف الرئيسي من التنمية هو القضاء علي الفقر، أو بمعنى أدق السيطرة علي حجمه في المجتمع بألا يأخذ من حصة الطبقة الوسطى للحدِّ الذي يجعلها هامشيةً و هو هدفٌ ممكنٌ في ظروفِ تنميةٍ مواتية فإن مجتمعاً ليس فيه فقراء قد يكون مستحيلاً، و مجتمعٌ ليس فيه طبقةٌ وسطى هو مجتمعٌ مصطنعٌ مُتأينٌ لعنصرين قابلين للاشتعال، فقيرٌ غاضب و غنيٌ غائب، الفقير يشتعلُ بالنقمة و الغني ينفعلُ بالبهجة، واجب الدولة المقدس هو في موازنةِ المعيشة للسكان و تمكينهم من الحصول علي خدماتٍ كريمةٍ و حظوظاً في الرُقي المعيشي مع أقل التفاوتات بين المواطنين. واجبها أن تحافظ علي أقل نسبة من السكان فقراء و أغنياء و بينهما طبقةٌ وُسطى عميقةٌ و مستقرة و كبيرة، واجبها هذه الدولة هو خدمة الفقير و تكريمهِ و لجم الغني و شطحاتهِ و بناء الطبقة الوسطى لتكون مفتاح و محرك التنمية.
لكن السياسات الاقتصادية القارصة و قصور شبكة الضمان الاجتماعي و تقهقر فرص العمل لا تساعد في أحيان كثيرة لخلق مثل هذه البنية لبيئةٍ مجتمعيةٍ صحيحةٍ و صحية و غير قادرة لأسباب متعددة علي تضييق الفجوة الغائرة بين شقاء الفقر و فاحش الغنى أو الحفاظ علي الطبقة الوسطى، و بقدر ما نستطيب في بلادنا توفير الخدمات الحديثة ومظاهر التمدن بقدر ما نقول أننا نعيش بالتوازي زيفاً مغطىً بالمديونية علي المستوى الفردي و تبذيراً مضراً غير منتج و استهلاكيٌ محض يستنزفُ المواطن نفسياً و مادياً و يؤين المجتمع لفقيرٍ غير قادر وغني غير مبالٍ بالفقر، و لا يرى في إظهار الثراء عيباً أمام أعين و أفواه لا تنال مثلما ينال.
كما أن انتشار المراتع اللاأخلاقية لا تقود لزيادة الدخل جراء زيادة أعداد السياح الراغبين بهذه المبتذلات و لا توفير العمالة بل هي أخطر ما يكون لتجذير أسوأ الأخلاق وما يتبعها من موبقات مجتمعية و صحية نقرأ عنها يومياً، عدا عن أن الشعور بالاغتراب في مجتمعٍ منقسمٍ بحدة و إصرار بين فقير و غني يقود بالضرورة لتبني آراء متطرفة تخلخل بنية المجتمع و الدولة وتتطور عنفاً لا تُحمدُ عقباه، و ليست الآراء المتطرفة حِكراً علي الإرهاب الذي يتخذ الدين مبدأً بل هي تشمل التدهور نحو المخدرات والانحلال الأخلاقي، وكذلك انتشار العنف غير المبرر في غير مكانهِ وانتشار الفوضى و العشوائية و الفساد بأشكاله.
إن العقل يقول إن كبح التبذير الحكومي و البذخ الأهلي وتعزيز الخدمات المجتمعية و تضييق مظاهر التفاوت المجتمعي عبر اقتصاد منتج و تصحيح مفهوم السياحة و تصويب التوجه الأخلاقي هي ضروريات أساسية للبقاء، إنها باختصار بعض مبادئ خطة التنمية الصحيحة المستدامة بالعدالة المجتمعية.