لا يتعارض حزم الدولة في إنفاذ القانون مع نهج “الدولة الرحيمة” التي بناها الأردنيون على مر 100 عام بالتعب والعرق والدماء في ظل القيادة الرحيمة المتسامحة التي لم تحكم بالحديد والنار والاكراه والتسلط، وانما بالصفح والتسامح وسعة الصدر وطول النفس والبال.
الأردن، دولة الإعالة التي رعت وراعت وعفت وصفحت ومكنت وعلمت وطورت وبنت، أُنهِكت. وبرغم الانهاك وأعاصير الإقليم، بقيت الدولة قوية منيعة ذات ارادة، وعصية ذات شكيمة.
الاحتجاج السلمي حق كفله الدستور والقانون. وخرج بالأردن مئات الآلاف من المتظاهرين لأسباب عديدة بين عامي 2011 – 2012 ولم يُقتل أحد لأن المطالب مشروعة وكانت أغلبية المتظاهرين والمحتجين عقلاء متزنين. وعلى الرغم من وجود تحريض ومحرضين من الداخل والخارج “لعنفنة” الاحتجاجات والمظاهرات آنذاك إلا أنها باءت بالفشل لرشد الدولة وأجهزتها الأمنية ووعيها من جهة، ووجود العقلاء المتزنين من المحتجين الذين يدركون مصلحة الوطن والناس بالأمن والسلام والاستقرار.
لم تختلف بدايات حركة الاحتجاج المطلبي هذه المرة عمّا جرى خلال العقد الماضي خصوصا في بداياته، لكن سرعان ما تم اختطاف الاحتجاج المطلبي السلمي وتحويله لمسار آخر وصل لرفع السلاح في وجه الدولة ومؤسساتها وقطع الطرق امام الناس والتعدي عليهم وتدمير الممتلكات العامة والخاصة وقطع سلاسل التوريد من خلال توقيف الشحن. هذه جرائم يُعاقب عليها القانون ويجب تطبيقه بإنصاف وبلا هوادة على كل من يحرض على العنف أو يرتكبه او يقطع الطريق.
ندرك ان الذين تضرروا خلال الأشهر القليلة الماضية من تجار الموت؛ تجار ومروجي المخدرات، وخلال السنوات القليلة الماضية اوجعت الأجهزة الأمنية المتطرفين التكفيريين، ركب هؤلاء موجة الاحتجاج السلمي الحالي وحاولوا اختطافها وتحويلها الى مواجهة مع المواطنين والدولة مما أسفر عن استشهاد أربعة من رجال الامن العام، وبرغم محاولاتهم الكثيرة، لم يسبق ان سُمح لهم ولن يُسمح لهم بزعزعة الامن والاستقرار، فالدولة، والدولة فقط، هي التي لها حق احتكار واستخدام القوة والعنف لحفظ الامن والاستقرار. والدولة القوية هي التي لديها القدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها على الجميع وبنفس مقياس العدالة والمساواة، وهذا ما يجب علينا جميعاً تطويره كي تكون الدولة اقوى لمصلحتنا جميعاً.
مر الأردن بالكثير في الماضي وتمكن من المضي قدما دون الكثير من الاضطراب ولكن بعناء ومشقة خصوصا في المجال الاقتصادي. إذ يشعر الناس بازدياد الأعباء الاقتصادية نتيجة ارتفاع أسعار المشتقات النفطية التي تخضع لضريبة ثابتة تعتمد عليها الحكومة لدفع رواتب موظفي القطاع العام والمتقاعدين الذين يشعرون أيضا أن قوتهم الشرائية ضعيفة وآخذة في الانخفاض. تضع هذه الحالة الحكومة والمواطنين بين المطرقة والسندان. فالحكومة مطالبة بتأمين الموارد المالية لإدامة الحياة ودفع الرواتب للعاملين والمتقاعدين الذين يعانون من ارتفاع الأسعار مقارنة بدخولهم. الجميع في وضع لا يُحسد عليه نظرا لتوسع القطاع العام بلا مبرر عملي وارهاق القطاع الخاص وتعقيد الإجراءات امام الاستثمار ليس على مستوى السياسة العامة وإنما على المستويات الإدارية التنفيذية.
من ناحية الإيرادات والنفقات العامة، لم يعد الأردن دولة شبه ريعية كما كان في النصف الثاني من القرن الماضي. شكلت الإيرادات المحلية من الضرائب والرسوم المتعددة نحو 90 ٪ من الإنفاق العام في العقدين الماضيين، 2000 – 2020. وعلى الرغم من هذه التغيرات الهيكلية في بنية الاقتصاد وانعكاس ذلك على علاقة الدولة بالمواطن، بقيت الثقافة السياسية التي يرى من خلالها المواطن علاقته مع الدولة إلى حد ما “ثقافة ريعية” تتوقع أن توفر الحكومة المال كما لو كانت دولة ريعية مثل دول الخليج.
الغد