كانت ترقص كفراشةٍ بثوبها الأبيض، لم تعرف معنى الزواج بعد، لم تعرف معنى الأسرة بعد، كل ما تعرفه هو ان تتمايل على أنغام الموسيقى، وان تفرح بلبسها الجديد وبالماكياج والمعازيم. لم تكمل الخامسة عشر بعد، نبرتها طفولية، تصرفاتها طفولية، حتى رقصها طفولي.لم تعرف ان الليلة ستنقلها من عالمها الطفولي، الى امرأة بالغة راشدة تتحمل أعباء الزوج والأسرة والغربة.
سافرت مع زوجها الذي يكبرها بعشرين عاماً الى دولة الكويت، حيث النفط والمال والحر والغربة.
سافرت الى المجهول، تاركة أزقة القرية، ورفيقات الطفولة، وحضن الأم الدافئ، لترتمي في لهيب الصحراء الحارق.
أبواب مقفلة، ولا علاقات مع احد، وأزيز المكيف يعمل لها دواراً في الرأس، والزوج غائب في عمله ليجمع اكبر قدر من المال وجدران المنزل صامتة كصمتها هي، حتى كادت تنسى الكلام.
رياح الغربة بدأت تداعب خلجات قلبها، على الرغم انه لم يمضي على غربتها أكثر من نصف عام، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وفقدت الشهية على الأكل كما فقدت الكلام.
تحولت حياتها الى صمت، وبدأ الهم والغم يتسلل الى جسدها النحيف، الذي زاد نحافة، وبدأت تتوسل لزوجها بان يدعها تذهب لزيارة الأهل، ولكنه رفض بشدة، ملقياً الأعذار تلو الأخرى.
بدأ الحنين والشوق الى الأهل والوطن يمزق أحشائها يوماً بعد يوم، وعلامات الحمل اصبحت ظاهرة عليها،ومضت بها الأيام الى مجهول آخر، عبء الحمل، والغربة، والطفولة الضائعة التي تحتاج الى يد أمها الحنون لكي تخفف وجعها الجسدي والنفسي.
اقتربت ساعة المخاض، لا احد يخفف عنها، ولا يسمع صراخها الأهل والأحباب، فأخذت تصرخ بصوت عالٍ لعل أمها تسمعها عبر هذه الصحاري الشاسعة والمسافات البعيدة، وأخذت تصرخ وتصرخ حتى سكتت عن الصراخ، لا لأنها أتمت عملية الولادة، لكنها ماتت لعدم مقدرة جسدها النحيل على تحمل آلام المخاض والولادة.
عادت سوسن الى قريتها، وتنازل هو عن رغبته في ان يعيدها الى الأهل والوطن، ولكن لم تعد زائرة، بل عادت بتابوت خشبي صامت كما عاشت صامتة وماتت صارخة.
Ibrahimraqaban67@yahoo.com