لا يتوقف زيلينسكي أوكرانيا وزوجته وحكومته عن تقريع العالم و الاستجداء و التحريض. التقريع لأن العالم لا يعطي كييڤ
سلاحاً يمحو قوات روسيا عن وجه الأرض. والاستجداء للسلاح ومولدات الكهرباء والتمويل الملياري على المكشوف. والتحريض هو علي إلغاء كل ما هو روسي من تشايكوڤسكي لپوتين وما بينهما من تاريخ وثقافة ورياضة.
أنا أعتقد أنني أفهم زيلينسكي. بل قد أتعاطف معه و ربما أشفق عليه. يعني بلاده تتفتت و هو كان ممثلاً كوميدياً هزلياً هامشياً و صار ممثلاً رئيساً في مسرحية لا يُخرجها و لا يقرر فيها حركةً. هذا يبعث علي كره النفس أن تمثل أنك شجاع ثم تنكشف أستار سيناريو المسرحية يوميا علي لسان كتابها والملقنين و يتضح أنك كومبارس. المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركيل قالت أن كل الاتفاقيات السابقة بين روسيا و أوكرانيا في مينسك كان هدفها شراء الوقت لتمكين أوكرانيا من بناء الجيش الذي سيتحدى روسيا. بعض المحللين الأمريكيين من ذوي المناصب العالية سابقاً في الحكومة يقولون أن تجهيز أوكرانيا للانضمام للناتو دون انضمامٍ رسمي لكن تجهيزاً عسكرياً موائماً كان هو الخطة. لذلك زيلينسكي الذي كان يأمل بانضمامٍ للاتحاد الأوروبي والناتو بقوة الأمر الواقع الحاصل أكيداً قاد بلادهُ في مسيرة التحدي لروسيا عالما تماما بالمسرحية و آملاً تنفيذها لتكون المكافأة انضمامه للاتحاد و الحلف رغم أنف روسيا.
ثم وقع المسرح علي رأسهِ عندما قالت روسيا يكفي هذياناً. والمسرح هو بلاده. و كما يقولون: راحت السكرة وأتت الفكرة. فلات زيلينسكي حين مندم و أراد الاتفاق مع روسيا. لكن الحسابات الغربية لم تكن لتسمح بهذا فطار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون لزيلينسكي وأوقفه عن الاتفاق. طيب، ماذا تركوا لزيلينسكي؟ لا نصرٌ في حرب و لا اتفاق، فما هو الحل؟ أن يمضي زيلينسكي في الحرب دون انتصار؟ غير معقول. أن تمضي أوكرانيا في الحرب دون زيلينسكي. ممكن. قريبٌ هو من الانهيار العصبي أو الجنون، و فيه من جنون العظمة الشيئ الكثير، وهو يرى أنه كما كان هزيلاً في الكوميديا فهو هزيلٌ في السياسة والقيادة. بل أنهُ جريئٌ هذا الزيلينسكي ليطلب خطاباً في نهائي كأس العالم و ترفضه الجهة المنظمة. لم يبقَ له و هو يحرق جنوده إلا كيل الشتائم و توجيه النصائح و المطالبة بالمزيد. نعم قد تأتيه بطارية پاتريوت و سيحرقها الروس. لن ينقذه إلا أن يكون مِلْكَ نفسه ويتصالح مع موسكو و ينقذ شعبه المسكين الذي يعاني من جنون عظمته. ولن يفعل. ربما سيصل للانهيار العصبي فيخرج محمولاً من المسرح أو سيجدون له مخرجا إنسانيا، كالموت في المعركة. و ربما تكون زوجته حاضرة أو تتحضر لتكون الخليفة. فهي امرأة جذابة و لها كاريزما و ستقود أوكرانيا كما يشاء الغرب ضد الرجل الخشن المعادي للشذوذ بوتين. معادلة لها حظوظ في النجاح طالما الغرب يريد أن يطحن روسيا في أوكرانيا و لا تُطحن إلا أوكرانيا.
الهدف ليس انتصار أوكرانيا فالكل يعلم أنها ليست إلا ساحة قتالٍ بين العالمين و النصر يحدده واحدٌ من العالمين و ليس كييڤ. كان بإمكانها أوكرانيا أن تكون رديف سويسرا في الحياد لكنها اختارت طريق الشوك. الآن تدفع معضلة أوكرانيا العالم نحو الهاوية. الغاز و النفط و القمح و السماد في أزمة. و قد قلتُ قبل أسابيع أن الخوف من السلاح النووي هو الذي يقود اليوم حدود تمادي الحرب. لكن پوتين علي استعدادٍ و هو حذَّرَ قبل ايام قليلة أنه جاهزٌ للنووي و قد قال هذا من باب "العلم والخبر" لمن يسمع و يفهم. هو الاختيار الأخير لكل عاقل لكن العقل يقود للاندثار أحياناً. هو ليس الوحيد لكنه يصرح وغيره يفعل. يلفت النظر تصريحٌ طويلٌ لمحللٍ أمريكي مع البريطاني جورج غالاوي أن الغرب هو الذي أغرق المدمرة الروسية الأدميرالية في البحر الأسود و قادَ هجوم الطائراتِ المسيرة الأوكرانية علي قاعدتين روسيتين نوويتين و هو يرى في هذا شروعاً غربياً في جريمة التهديد بالنووي. و من بريطانيا تصريحٌ عسكري لم ينفهِ أحد أن قوةً من مشاة البحرية البريطانية قامت بعمليات سرية و خطيرة في أوكرانيا لم يُعلم تفصيلها لكنها حتماً ضد الروس. فهل هناك بعد هذا ترددٌ من التوجه نحو التصعيد الذي قد يقود للنووي؟ الحقيقة أن القابضين علي المفاتيح النووية يعلمون أن تدويرها للأحمر سيعني فناء نصف سكان العالم علي الأقل و استحالة الحياة في الأراضي المضروبة المتأثرة بالنووي. لهذا السبب يوجد التردد في استخدامها. لكنهم لا يعرفون كيف ينتصرون علي روسيا و لا روسيا تعرف كيف تنتهي المعضلة الأوكرانية فيكون التلويح بالنووي. تخيلوا ماذا سيحدث لو انطلقت الصواريخ النووية. تخيلوا ملايين القتلى وملايين الجرحى وملايين مشوهة و ملايين ستأتي مشوهة و أراضٍ جرداء بوار لن ينبت فيها زرعٌ نافع. و بعد هذا اندفاعاتٌ لملايين الهاربين نحو ما يعتقدونه بلاد الأمان. بلادُ الأمان ستكون في جنوب الكرة الأرضية، في إفريقيا وأمريكا الجنوبية. تخيلوا هجرةً عكسيةً بالقوارب من الشمال للجنوب و ما سينتج عن الاندفاعة من حروبٍ و إقفال حدود و كراهياتٍ و مجاعات. لقد شهد العالم ٢٠٠ ألف قتيل في هيروشيما وناغازاكي نتيجة تفجيرٍ يعد ألعوبةً بالمقارنة مع القدرات النووية اليوم. تخيلوا مضاعفة أعداد الضحايا علي عديد البلدان المضروبة. و تخيلوا أن القدرات النووية اليوم تضم دولاً لم تكن تملكها سابقاً. بالإضافة للولايات المتحدة وروسيا، انضم للنادي الصين و بريطانيا و فرنسا و الهند و الباكستان و كوريا الشمالية و "إسرائيل". و تخيلوا انفلات الأمر علي المستوى الإقليمي بين الهند و الباكستان و كوريا الشمالية و جوارها و "إسرائيل" و العرب و إيران. إن تدحرجت الكرة النووية فلن تتوقف قبل أخذ الثارات و العودة بالعالم فعلياً للعصور الوسطى.
و لنربط المشهد المرعب هذا بما تردد عن الحاجة لتشذيب و تقليم عدد سكان الأرض التي لم تعد تتسع لهم. إن لم تكفي الأوبئة فلعل النووي يقوم بالمهمة. نكاد نصدق نظريات المؤامرات لكن أليس اللهب النووي و تصنيع الڤيروسات الحاصدة مؤامراتٍ تمثل حقيقةً ماثلةً؟ تاريخياً، ألم يُقدِم التوسع الأوروپي في الأمريكيتين واستراليا علي إفناء الملايين لتتسع البلاد الجديدة للقادمين البيض؟ ألم ير البحر و المحيط نقلاً للأفريقي السيد الكريم ليصبح عبداً مملوكاً في الأراضي الجديدة؟ كل غزو و غزوة و حرب و استعمار منذ الأزل الإنساني أتت بالتغيير السكاني الخاص بها. فإما إبادة وإما إحلال و إما امتزاج. و هذا كله كان دون عنصر تلويث الأرض و العبث بالبيئة للحد الذي يُميتُ الأرض و هو ما سيتغير للأبد حال حصول الحرب النووية الواسعة التي ستبيد الإنسان و بيئته. من العار البشري أن نفكر بالتهديد النووي و التهديد الڤيروسي فيما يمكن بكل سهولة تحويل الموارد لتعظيم الفوائد الإنسانية. و العلماء اليوم يتكلمون بالدليل عن "الفناء السادس" في الكرة الأرضية وهم يعنون اندثار الإنسان نتيجة إمعان تدمير كوكبه بالملوثات، فالإنسان يسعى حثيثاً لتدمير نفسه عبر فرط استهلاك واستنزاف الأرض. إذاً هي الدواهي الثلاث: التلوث الاستهلاكي الذي سيعبر حدود البقاء للبشر و نشر الڤيروسات القاتلة بالتعمد لتقليص عدد البشر و النووي الذي بلحظات يُنهي حياة نصف الكوكب. أما السياسيون الذين جمعتهم البيئة بشرم الشيخ مؤخراً فيدٌ علي الزناد النووي و يدٌ تدير مناجم الفحم و محارقه من جديد. وأوكرانيا أخرجت كل هذا للملأ.
عندما يرضى زيلينسكي أن يلعب الكبار ببلده نكايةً بروسيا ويرتد السحر علي الساحر سيفعل السيد أنطونيو غوتيريش معروفاً أن يقترح اليوم للعالم إعلان حياد أوكرانيا فالعالم في خطر من انحيازها و من تحريض قادتها. إن جنون عظمةِ زيلينسكي الملتقي مع أحلام الغرب تفتيت روسيا من طريق بلاده المكلومة ستوصل العالم للحرب النووية لا محالة. أما تحول أوكرانيا إلى الحياد فسيشتري للعالم فرصةً جديدةً. هذا هو دور الأمم المتحدة: إيجاد العلاج حتى لو كان من حنظل لا توزيع الضماد و حسب. غير أن قامةَ الأمم المتحدة محتارةً بين العالم الذي عرفته منذ بداية التسعينات والعالم الذي قد يكون: إما نصفه محترق و إما تحكمه أقطابٌ بدلاً من قطب. و الأجدى هو بدء التكلم عن عالمٍ لا تهددهُ قطبيةٌ واحدة و ممثلٌ فاشل. فهل تقدر الأمم المتحدة علي ذلك؟ أم أن زيلينسكي يقودها من حيث تدري أو لا تستطيع أن تقول لا؟
ali.alzatari@gmail.com