قضايا من رحم أزمة الشاحنات
د. جواد العناني
18-12-2022 04:29 PM
جاء استشهاد العقيد عبدالرزاق الدلابيح على أيدي جناة يجري البحث عنه أو عنهم بكل همة مغيراً لمسار الاحتجاجات على رفع أسعار المشتقات النفطية. ولو توقف الأمر عند عدد النشامى من الأمن العام الذين جرحوا، وعلى السيارات العامة والخاصة التي دمرت. لبقي اطار القضية برمتها محصوراً في اطار البحث عن حل يوفق بين النقيضين، ويطفئ نيران الفتنة.
في ظل هذا التطور الدراماتيكي، توجه الاهتمام الملكي والحكومي والتشريعي إلى تعزية آل الفقيد وعشيرته من بنى حسن الكرام، والبحث عن الجناة أو الجاني، وعلى وضع بدائل لتوقف سلسلة التزويد كي لا تحصل خسائر أكبر ومؤثرة سلباً على قطاعات النقل والتجارة، والصناعة، وأمن المواطن في غذائه ومعيشته.
ولكن المتأمل وسط تضارب الآراء حول الأزمة وطرق حلها، يلحظ قفز بعض الآراء إلى ساحة النقاش الوطني، وشَغْلها لتفكير الناس. القضية الأولى: هل أخطأت الحكومة في توقيت القرار وطريقة الاعلان عنه؟ وهل كان تصريح رئيس الوزراء في الجلسة الأولى من الدورة العادية الحالية حيال احتجاجات النواب على رفع اسعار المشتقات مثيراً لمشاعر الناس؟ وهل كانت لغة التهديد التي استخدمت بعد استشهاد المرحوم عبدالرزاق الدلابيح مثيرة للمشاعر؟
في تقديري أن الحكومة وجدت نفسها بين متناقضين صعبين هما رَتْق الثقب في الموازنة العامة عن طريق تخفيف حجم الدعم للمشتقات النفطية أم الاستجابة لشكاوى العاملين في قطاع النقل العام بتعويضهم عن الخسائر التي تكبدوها. ومن هنا، شعر أصحاب الشاحنات، واكثرهم استدان ثمنها من البنوك. أن كلفة تسيير الشاحنات قد ارتفعت، وكذلك ارتفعت الاقساط الشهرية المستحقة للبنوك بسبب رفع اسعار الفوائد ثلاث مرات في الأشهر السبعة الأخيرة بمقدار 2.5% نقطه مئوية، أو مائتين وخمسين نقطة اساس.
أما الحكومة التي ترى أن التزاماتها تزيد، وأن ايراداتها لا تغطي إلا جزءاً تناقصياً من نفقاتها، تضطر للبحث عن بدائل. ولذلك، ابرزت لنا قضية اضراب الشاحنات جانباً مهماً في سياساتنا الاقتصادية، ألا وهو توزيع الأعباء وليس مجرد توزيع الفوائد والمنافع. وفي ظني أن الانتقال إلى الاصلاح السياسي سوف يرسم لنا خيارات الناس حيال هذا الموضوع. ولا يجوز أن نسمح باستمرار المفاضلة بين موازنات الأسر الاردنية والموازنة الحكومية بعيداً عن القدرة على الاختيار الشعبي بموجب التعبير الرسمي والمؤسسي لأفضليات كل الناس أو غالبيتهم.
أما القضية الثانية التي برزت إلى السطح فهي المطالبة باستقالة الحكومة. وهناك عدد من المراقبين الذين يرون في تغيير الحكومة انصياعاً لعدد من أصحاب المصالح الخاصة، وأن التغيير في هذه الفترة سيفتح الشهية الشعبية على مزيد من التغيير في المستقبل. أما الجانب المؤيد لهذا الرأي فيقول أن الحكومة قد ساهمت في خلق الأزمة. وأنها - حسب رأيهم- عاجزة عن الحل.
والواقع أن الجواب على هذا السؤال معقد. ولو نظرنا إلى تاريخ الأردن منذ نشأته لرأينا أن الحكومات قد تغيرت بمعدل مرة كل أحد عشر شهراً، خاصة في سنوات الأزمات الصعبة. وأنا أرى أن تغيير الحكومة فوراً ليس أمراً راشداً. بل يجب اعطاء الحكومة فرصة لاصلاح هذا الملف، والوصول إلى حل له، حتى يأتي زمان - قرب أم بعد- يرى فيه صاحب القرار الدستوري، أو الملك، أن الوقت قد حان للتغيير من عدمه.
والقضية الثالثة المثارة على الساحة الجدلية الأردنية هي هل هناك جهات خارجية تتدخل في الموضوع؟ والاجابة على هذا السؤال يجب أن تكون دقيقة ومستندة إلى معلومات موثقة. هناك من يقول أن دولاً عربية ليست على وفاق مع الأردن لها مصلحة في خلخلة الوضع الداخلي، وآخرون يرون أن الحكومة الاسرائيلية القادمة، والتي تسيطر حالياً على المشهد السياسي لها مخطط لحل القضية على حساب الأردن. وآخرون يقولون أن تجار المخدرات الذين ازداد الضغط عليهم في الأزمة الأخيرة من قبل نشامى الجيش والأمن لهم رغبة كبيرة في احداث الشغب حتى تلتهي الجهات الحافظة لأمن الأردن واستقراره في ملفات غير ملف المخدرات.
وقد كتبت عدة مقالات في الصحف الغربية عن بَرَم الحكومة الاسرائيلية الحالية من رفض الأردن الدخول في ترتيبات لانهاء القضية الفلسطينية. وحذر كذلك الكاتب الامريكي توماس فريدمان في مقال خطير عن التحول اليميني الديني المتطرف في اسرائيل وخطورة ذلك على اصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها مثل الأردن ومصر وغيرهما. ويأتي استنفار الجيش على امتداد الأردن وحدوده كاجراء احترازي من التدخلات الخارجية في شؤون الأردن الداخلية.
والقضية الرابعة هي ضرورة التركيز على مخرج من الأزمة الاقتصادية الحالية. وسوف أكون جريئاً هنا بصفتي صاحب اختصاص اقتصادي.
نحن بحاجة إلى معالجة الوضع الاقتصادي الأردني بطرق فعالة أكثر مما طرح علينا حتى الآن، وبحاجة إلى تفعيل الاصلاح الاداري بطرق غير ضم الوزارت وحل بعضها. آن الأوان أن يتولى المجربون وأصحاب الخبرة زمام الأمور ويضعوا برنامجاً لثلاث سنوات يتعامل مع الاختناقات والتعطيلات في الاستثمار. إن ما طرح من حلول حتى اللحظة مفيد لو كانت الدنيا قمراً وربيعاً، ولكنها ليست كذلك. واستبعاد أصحاب الرأي والخبرة أثبت أنه غير مجد وأن هناك حلولاً متجددة، بدلاً من اسلوب التجربة والخطأ الذي نمارسه، ولا يفتأ يعرضنا لمحن جديدة.
الأردن أقوى واشجع واعمق من أن تتحول ازمة النقل والشحن إلى ازمة وجود. ولكن يجب ألا نستهين بالوضع، ولا أن نبالغ فيه. الشعب الأردني ذكي، ويعرف كيف يفرق بين حرية التعبير وسوء استخدامه، وكيف يحل مشاكله بالتوافق.
الأزمات تشحذُ الأمم وتجدد عزيمتها، وقد صدق المتنبي حين قال:
الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ
هو أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني
فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ حُرّةٍ
بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ